طوبى للفَرَح

طوبى للفَرَح
الرابط المختصر

كثيراً ما نتحدّث عن الفرح من دون أن نعرف، تماماً، كيف نعبِّر عنه بالكلمات. ففي مجرى الكلام القائم بين إثنين أو ضمن مجموعة من الناس تتخاطب، ترانا نقول: "نحن فَرِحون". وفي عديد من الكتابات الأدبية نجد الصيغة التالية تتكرر وكأنها تفي بغَرَض الوصف: "ولقد اعترانا الفَرَح."

المتأمل لهذين المثلين، ورغم أنهما يأتيان في سياق سرد واقعة أو حكاية أو صُدفة تكون المسبب المباشر للفرح، إلّا أنّ الفرح كانتقال من حالة إلى حالة أخرى يبقى مسألةً خاضعة للنسبية والتأويل. فما يجعلنا نتحوّل في مشاعرنا ليس سوى "الرافعة"، إنه الدافع الخارجي الموضوعي القابل للقياس في تأثيره علينا، وبالتالي فإنّ دواخلنا تنفعل وتتفاعل بحسب كل واحد منا: أي أننا لسنا على مستوى واحدفي عيشنا للفرح كحالة انتقلنا إليها، ولسنا نكتبه داخلنا بلغة متفق عليها لنستخرج منه نسخة واحدة.

المغري في مسألة الفرح، عند تأملها وقد ترجمت نفسها عبر التغيُّر في ملامح وجوهنا، أو اختلاف نبرة أصواتنا، أو حتّى في عدم سيطرتنا على حركة أجسامنا كردّة فعل؛ هو أن نتخيَّل مجموعة الصور التي توالدت فينا في تلك اللحظات. ليست الصور فقط؛ بل ثمّة أصوات قديمة تأتينا من الماضي وقد بعثت بها الذاكرة، وروائح مصاحبة لذلك كلّه. نعم؛ إنها أصواتُ أغانٍ أليفة وأُناس عرفناهم، وصور لشوارع مررنا بها ووجوه لم نعد نتذكر أصحابها، وروائح لبيوت عتيقة، وزوايا أزقة، وصالات سينما، ولأماكن شتّى أخرى.

المغري في مسألة الفرح، التساؤل في إذا ما كنا نحن مَن انتقل إليها، أم أنها هي مَن لامستنا في أعماقنا فنقلتنا إليها! لعلّني أميل إلى الافتراض الثاني مفترضاً، في الوقت نفسه، أنّ مسببات كافة المشاعر التي تعمل على تغيير أمزجتنا تكمن في خارجنا. وأنها جميعها متوفرة، ودائماً، ولكن لِمَن هو متهيئٌ لها ومستعدٌ للتفاعل معها مستجيباً لندائها!

سأضرب مثلاً على ما أقول لأبتعد عن الكلام المجرد فيقع، وأقع أنا بدوري، في التباس المعنى.

في الحفلة التي أُقيمت يوم الجمعة الماضي للمطربة ماجدة الرومي، أزعم بأني "رأيتُ" الفرح وهو ينتشر ويتغلغل بين الحضور. حضور كبير ملأ جميع مقاعد صالة الأرينا في جامعة عمّان الأهلية. رأيتُ الفرح وكأنه رائحة، أو هواء، أو هسيس، أو عِطْر يتناغم ويتصاعد ويرتفع بالناس عالياً، من دون أن يغادروا مقاعدهم. طبعاً، كثيرون منهم وقفوا وتمايلوا ورددوا كلمات الأغاني مع ماجدة الرومي، بل شاركوها الأداء على نحو جَماعيّ فغنّوا فقرات وفقرات بالنيابة عنها. هذا تمثيلٌ جَماعيّ جماهيري للفرح رأيته هناك.

ولكن، ماذا عن الذين ظلوا في مقاعدهم ينصتون، الكِبار من رجال ونساء من غير الشباب، بَشَر بخلفيات ثقافية وتجارب حياتية متنوعة؟ ألم يكونوا "يعيشون" الفرح بطرقهم الشخصية هم أيضاً؟ ألم يكونوا يترجمون اللحن والكلمات والصوت داخل عوالمٍ تم استعادتها من الماضي، فما كانت ماجدة الرومي سوى الباعث على إحياء كل جميل عاشوه.. ومضى؟ من هنا، من هذه المناطق النائية في مساحات تاريخنا الشخصي تهبُّ علينا عطور أفراحنا الخاصّة.

فماجدة الرومي، بالنسية لي مثلاً، ليست مجرد أغانيها المميزة وصوتها الأوبرالي القوي النظيف. إنها أيضاً الفنانة صاحبة الموقف الوطنيّ الخالص والبسيط. الموقف العروبي المتخلّص من أي انتساب فئوي، أو دينيّ، أو طائفيّ؛ موقف لا ينتسب سوى لإنسان الأرض. نجد هذا في كلمات عدد من أغانيها، غير أنّ اللافت أنّ هذا الموقف هو نفسه موقفها التي كثيراً ما أفصحت عنه في حواراتها.

هذا وأمور أخرى كانت حاضرة في داخلي بينما أتفاعل مع حالة ماجدة الرومي.

وهذه في ذاتها كانت ترجمتي للفرح الذي "اعتراني" تلك الأمسية. حضرت جُمَلُها بصوتها ونبرته القاطعة عندما تحدثت عن الأرض وإنسانها بالضد من كافة أعمال الإرهاب بشتّى أسماء مرتكبيها وذرائعهم، في برنامج منى الشاذلي على قناة سي. بي. سي. حضرت بيروت التي عشتها بأزقتها وروائح الشقق الطلابية التي سكنتها.. فسكنتني، حين غَنَّت عن بيروت. حضرت مفردات اعتقدتُ أنها ماتت في داخلي، فبعثت فيها الروح.. فأفرحتني.

أوَلَيسَ الغِناءُ الحق مخاطبة الروح للأرواح التواقة للحياة؟ أي للفرح؟

طوبى، إذن، للفرح ولِمَن ينشره بين الناس.

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.