تميّز اليسار، وقلبه الحركة الشيوعية، في العالم وفي الوطن العربي، في أفضل أحواله ومراحله، بأمرين: 1) الشجاعة الأخلاقية والعلمية العالية، التي تترفع عن الصغائر وعن الشخصنة والمواقف المسبقة والجاهزة، وتعطي الخصوم حقهم، وتعترف مع شعور بالامتنان للآخر؛ 2) التقدير والاهتمام العالي بالعلم والثقافة، واعتبارهما المصدر الوجودي لاستمرار الفكر وحياته، وأن الفكر هو نبض الوعي السياسي والتغيير الاجتماعي وجوهر وعي الوجود نفسه، وأن لا وجود انساني من دون وعي.
هذه القيم انحطت في اليسار العربي، بعد انهيارها الكارثي في أوروبا.
لقد تورط اليسار الأوروبي في خيانةٍ تاريخيةٍ، حين قبل التواطؤ على الشيوعية السوفيتية، وغرِق في البحث عن الليبرالية الروسية ومحاولة إحيائها، وغاب عنه في الأثناء اللجوء مثلاً إلى الشيوعية الروسية، رغم أن المصادر التي كان يتعامل معها كانت تؤشر على هذا الاتجاه، أكثر من تأشيرها على تلك النزعات الليبرالية البدائية، الهشة (بيردياييف، مثلاً، وصديق كارل ماركس العزيز القديم، الشعبي بيوتر لافروف، على نحو ما).
ولنلاحظ: انهيار هذه القيم التأسيسية، لم يأت من المركزة على موسكو. جاء هذا الانهيار، على وجه التحديد، بسبب المركزة على الغرب. وليس لأن اليسار والشيوعيين العرب، وفي العالم، كانوا يفتحون المظلات في بلدانهم إن أمطرت في موسكو كما كان يقال، أي، جاء بالذات من التورط الجهول في المساهمة بجهود هدم الشيوعية السوفيتية.
عليّ أن أشير هنا إلى أن هذا الكلام السياسي، وربما الأيديولوجي، يذهب في الأساس إلى طرق أبواب حقائق القرن العشرين الثقافية؛ الحقائق التي لا تزال إلى اليوم تمارس حضورها وسلطتها.
المهم في المسألة أن الانقلاب الأوروبي، وبالتبعية الاستعمارية لم يكن التحول اليساري العربي، ضد الشيوعية السوفيتية خصومة من موقع فكري، بل كان في الأساس خيانة لأفضل ما أنجزت وقدّمت الحضارة الغربية (الأوروبية) في الطريق إلى تسليم إرادتها وعقلها وسلطتها ومبناها ومعناها للغرب الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية).
لم تخن حضارة نفسها، كما فعلت الحضارة الغربية (الأوروبية). يفوتنا أن الحضارة الغربية هي بالأساس أوروبية. وأن علاقة المستعمرات الهمجية (الولايات المتحدة وأستراليا) بهذه الحضارة، والأدق أن نقول ثقافة، هي علاقة استحواذية بالمعنى النفسي، واحتلالية بالمعنى السياسي، وهيمنة بالمعنى التاريخي.
الجريمة والجهل والنفايات هي مظاهر العصر الذهبي للرأسمالية. ولهذا بالذات تفوقت المستعمرات الهمجية الإجرامية بالمعنى الجنائي، وتراجعت إلى الحضيض المستعمرات من بلدان العالم القديم، التي تتكئ على آلاف السنوات من الحضارة والثقافة والعلوم والآداب.
وهذا مدخل مناسب لفهم عقل روسيا في ماضيها وحاضرها. هذا مدخل مناسب لفهم التجربة السوفيتية، ومأثرة الشيوعية السوفيتية، التي خانها اليسار الأوروبي، وتبعه في الخيانة تلقائياً اليسار العربي. من دون أن ينتبه أحد إلى أننا في خضم هذه الخيانة، أضعنا قيمنا الثقافية: الأوروبية والشرقية (أقصد العربية، لأن الثقافة الصينية لا تزال موجودة وفاعلة ومتجددة).
ببساطة، لقد دخلنا في "روعة" استلذاذ أن نكره أنفسنا! وأن نحب الهمبرغر وفقرة الرئيس الأمريكي في نشرة الأخبار، بل وحينما نحدد موقفنا من فنانٍ أمريكيٍ، فإن موقفنا يكون بالضرورة أمريكياً محافظاً. مثلاً، مايكل جاكسون التائه، ليس فناناً فريداً، بل ظاهرةً عجيبةً وسلعةً مهمةً.
الرأسمالية بالطبع تُسلّع كل شيء، حتى الأفكار. ونحن نضيع كل شيء، حتى العقل والضمير والأخلاق؛ في السياسة والثقافة وفي الحياة اليومية. وفكرة خيانة اليسار، ومنه العربي، للشيوعية السوفيتية، تعيدني دائماً إلى عبد الناصر وياسر عرفات، اللذين هما أهم محطتين عربيتين في التجربة السوفيتية، وعلى علاتهما لم يكونا خائنين، رغم أن الكثير من اليساريين ما كانوا يجدون سبيلاً للتعبير عن يساريتهم إلا بالنقد المتجني للتجربة السوفيتية.
المشكلة أن اليسار العربي خان ولم يكن بحاجة لتذوق طعم الخيانة "اللذيذ". والأدهى، أن هذه لم تكن خيانةً للشيوعية السوفيتية، ولمحاولات التغلب على تصنيفات ما بعد الحرب العالمية الثانية ولقضية الانتصار للشعوب في البلدان النامية، ولكنها كانت خيانة وطنية باعتبار أنها واحدة من لحظات ما بعد "الاستقلال"، التي سارت فيها طليعة الشعوب وراء عقل المستعمر.
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.