صحافة الاستقصاء عربيا: التأرجح على الحافة!
تنطلق اليوم فعاليات ملتقى الصحفيين الاستقصائيين العرب في الأردن، بظروف سياسية ومهنية بالغة التعقيد، باتت تلقي بظلالها على دور السلطة الرابعة في العالم العربي منذ بدء الردة الممنهجة على الحريات البسيطة التي عشناها، عندما هبت رياح التغيير على منطقتنا العام 2011.
ندرك أن مهنة الصحافة ليست سهلة في أي بقعة من العالم؛ حتى في أميركا، التي كانت يوما ما تحمل شعلة الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي قبل صعود دونالد ترامب إلى سدّة الحكم العام 2016. على أنه لا يوجد اليوم أي مكان على هذه الكرة الأرضية قابل للمقارنة مع ما يحصل في العالم العربي، عندما يتعلق الأمر بتكميم الأفواه، غياب وتغييب حرية الصحافة، وسيف الخطر المسلط على رقاب الصحفيين.
خلال السنوات السبع التي أعقبت ما عرف بـ"الربيع العربي"، تلاشى الأمل وتعمق الشعور بخيبة كبرى. كمواطنة أردنية، عشت تراجع الحريات العامّة والإعلامية على نحو يبعث على القلق. كصحفية، بت اليوم أعمل تحت ضغوط رسمية لم أعهدها منذ بدأت حياتي المهنية العام 1984.
المفارقة أن كبار المسؤولين، يبدون دهشة من الشكوى بأن حرية الإعلام في تراجع، ويتعامون عن الحقائق والمؤشرات الدولية لقياس حرية الرأي والتعبير.
السنوات الماضية كانت الأصعب في مسيرة شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)"، ذلك أن غالبية الحكومات العربية سنّت قوانين وتعليمات، نعدّها نذير شؤم لجهة حجب المعلومات، فرض الرقابة أو انتشار الرقابة الذاتية بين إعلاميين، اللجوء إلى التهديد، التعذيب والسجن وحتى القتل.
يكسر معظم المسؤولين العرب القوانين دون أدنى رقابة أو خشية من العقاب، لأنهم واثقون من أن المساءلة معدومة في بلادهم، وأن الغرب سيشيح النظر عن تجاوزاتهم، فالمصالح تسمو فوق المبادئ في هذا العصر الرديء.
الولايات المتحدة والدول الأوروبية بات أكثر اهتماماتها اليوم هو صيد صفقات تجارية مليارية من هذه المنطقة، وتتصدر أولوياتها محاربة الإرهاب العابر للقارات – وبعضه من صناعتها- ووقف تدفق اللاجئين السوريين إلى بلادهم. أما المجتمعات العربية الغارقة في انقساماتها وخنوعها، فلا تساعد كثيرا على تعرية الحكومات. لا توجد مطالب مجتمعية بإجراء تحقيقات استقصائية تكشف ممارسات حكومية مغلوطة وقضايا فساد. أدمن المجتمع المنقسم عاموديا على جرعات متناقضة من فيديوهات موسيقى أو برامج تلفزيونية ترفيهية، وبين تجييش غيبي ودعوات للتكفير عبر العالم الافتراضي.
السلطات سعيدة بهذا الانهيار المجتمعي وتفعّل القوانين انتقائيا كما يحلو لها.
وهكذا تتعقد الخيارات المتاحة أمام الصحافيين العرب، وهم بوضع لا يحسدون عليه: إما مع النظام/ الحكومة وإما يصنفون ضمن الخندق المعادي للوطن.
تحثّ شبكة أريج معشر الإعلاميين على رفض ثنائية الخيار هذه، فدورنا حراسة المجتمع، كشف الإخفاقات، المطالبة بالحلول، نبش ممارسات الظلم التي تؤدي للقهر والتعاسة، وكذلك توفير منصات لمن لا صوت لهم ولفاقدي الأمل. كما أن دورنا مساءلة الفاسدين والمهملين وغير الأكفاء حتى يقوموا بمهامهم.
في غالبية دولنا، بات ينظر للإعلام المنقسم على أسس سياسية وأيديولوجية – محليا وعلى مستوى المنطقة- على أنه مصدر لزعزعة الاستقرار وشحن الخلافات والتناحر الداخلي. وتغيب الحقائق خلف هذه الفزّاعة.
يرثي الإعلاميون هنا انهيار معايير المهنية وتراجع قيمها وأخلاقياتها بصورة مرعبة، وسط غياب أي آلية لتنظيم هذه الصناعة من الداخل. لكن هذه الانتكاسات المتناسلة لا تقف عقبة أمام صحافيي أريج، ولا تثني ممارسات التسلط التي يواجهونها أثناء بحثهم ومحاولة توثيقهم للحقائق عن كشف قضايا تهم الرأي العام، وصولا إلى تفعيل مبدأ المساءلة؛ جوهر عمل السلطة الرابعة.
دول عربية عديدة باتت سجونا مفتوحة للصحفيين والمعارضين.
حتى في الأردن؛ يجبر الصحفيون على عضوية نقابة الصحفيين الأردنيين كي يتمكنوا من ممارسة عملهم. بخلاف ذلك، قد يواجهون المحاكمة بتهمة انتحال صفة صحفي. أيضا العمل جار الآن على إقرار مسودة جديدة لقانون الجرائم الإلكترونية، وصف بعض بنودها رئيس الوزراء الحالي د. عمر الرزاز بـ"المصيبة"، متناسيا أنه وقّع عليها في الحكومة السابقة حين كان يحمل حقيبة التربية والتعليم.
يشعر الصحفيون والنشطاء أن مشروع القانون الجديد قابل للتكييف القانوني ضد أي مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بغياب تعريف لجرائم الحض على الكراهية. ويقر 95 % من الصحفيين الأردنيين أنهم يمارسون الرقابة الذاتية.
في خلفية هذا المشهد الإقليمي والدولي السوداوي، ينعقد ملتقى شبكة أريج الحادي عشر في الأردن بين 30 تشرين الثاني (نوفمبر) و2 كانون الأول (ديسمبر) بعنوان: "مستقبل صحافة الاستقصاء؛ الاتجاهات السائدة، الأدوات ونظم التكنولوجيا".
الأريجيون – وفق تسمية عديد الصحفيين المدعومين من الشبكة- يستحقون دعما غير عادي وميداليات شجاعة على انتمائهم المهني ونزاهتهم الشخصية ومقارعة المستحيل في واحد من أخطر أقاليم العالم.
نرفض الجلوس في شرفة المشاهدين، ففي ذلك خيانة لميثاق الشرف ولمبادئنا المهنية. سنتحوّط للأسوأ ونستمر بالضغط لتوسيع هامش الحريات الصحفية في دول نسعى لأن تكون قائمة على المواطنة، القانون والحاكمية الرشيدة، فصل السلطات والكرامة والعدالة الاجتماعية.
* مديرة شبكة أريج منذ انطلاقها في عمان العام 2006، وهي شبكة تمول من (سيدا) السويدية، (دانيدا) الدنماركية، الخارجية النروجية والهولندية ومؤسسات المجتمع المفتوح (OS)
الغد