شُركاء الخَراب
ألف مليار دولار صُرِفت خلال 13 سنة في العراق، أيّ منذ احتلاله وتسيُّد المنطق الطائفي الذي جاء برجالاته من الخارج على الدبابات الأميركية، لا ليقيموا دولة "الديمقراطية" الزاهية (بحسب الشعارات والدعاوى الوافدة)؛ بل ليقايضوا ويقبضوا! يقايضوا الولاء لإيران بمنحها الكلمة الفصل في أخصّ شؤون البلد الوطنية السيادية، فينالوا رضاها باستمرارهم. ويقبضوا على المقدرات النفطية الهائلة أموالاً منهوبة على نحو غير مسبوق، فيحققوا للمحتلّ الأميركي مبدأ غزوه المتمثّل في إعادة العراق قروناً للوراء– وفق أحد تصريحات جورج بوش الابن إبان الغزو!
رغم الألف مليار دولار هذه، في بلد نفطي كبير، لكن ثمة أزمة عجز كهربائي فادح لم تكن موجودة "أيام الدكتاتورية"، فجاءت موجة الحر الاستثنائية لتكشف الغطاء كاملاً عن فضيحة اللصوص! لصوص طائفيون لا يتورعون عن بيع كلّ شيء، بحجة المحاصصة التي أتت بهم إلى سدة الحكم، بما في ذلك الوطن نفسه، كوجود ومفهوم! وإلّا كيف بمقدورنا فهم ترك الأنبار لداعش تستبيحها، والموصل ونينوى تُسَلَّم بأهاليها العُزل وكامل معداتها العسكرية الضخمة من قبل، وبلا قتال، وهي المناطق ذات الأغلبية السكانية غير المنتمية لطائفتهم! ناهيك عن تردي الخدمات الفادح في كلّ المجالات الحياتية الحيوية، ثم الوصول إلى مديونية الدولة وحاجتها لأن تمد يدها لإعانات الصندوق الدولي!
وهكذا، ومع توالي النكبات الحالّة بالبلاد وتراكمها على أيدي الطغمة الحاكمة بطائفيتها، وموالاتها المشبوهة، وفسادها الشَرِه، يطلع علينا التسويغ الأميركي/ بالون الاختبار، القائل "إنّ الحلّ الوحيد هو اللجوء إلى تقسيم العراق"! أما الرد على الانفجار الشعبي الأخير، المطالب بمحاسبة الفساد والمفسدين؛ فإنّ الجزء الأساسي في "حزمة الإصلاحات" المعلنة لن تتاح له فرصة التطبيق ما لم يتمتع بموافقة إبران ومباركتها– إذ تطال "الرؤوس الكبيرة"!
فهل تسمح إبران؟
إنّ سؤالاً كهذا، يمسّ شأناً وطنياً داخلياً يتبعه بالضرورة تحوّلٌ في رسم مستقبل العراق، ولا يملك العراقيون أحقية الإجابة عنه؛ لمسألة تعود بنا إلى سؤال أوّل ومؤسس:
هل العراق اليوم دولة حقاً؟ دولة مستقلة وذات سيادة؟ دولة تساوي بين جميع مواطنيها بكافة أديانهم، وطوائفهم، وأعراقهم، ومعتقداهم، ومذاهبهم، وانتماءاتهم الفكرية والحزبية، وماضيهم السياسي المختلف؟ عند العثور على إجابة دقيقة مستخلصة من أرض التجربة الواقعية لهذا السؤال، يصير لنا، بعدها، أن نطرح سؤال "الديمقراطية" الزاهية بألوانها المزعومة.
* * *
في تقرير صوتيّ بثته إحدى الإذاعات الدولية باللغة العربية، ما يفيد بتجهيز ثلاثة آلاف مسيحي عراقي، وتأهيلهم مقاتلين لدحر داعش في معركة الموصل القادمة، والمشاركة في "تحرير" سهل نينوى، موطن أجدادهم، مع قوات البشمركة الكردية التي قامت وزارتها بتدريبهم!
فلندققْ في عناصر هذا التقرير: مسيحيون عراقيون من سهل نينوى، زائد أكراد في مناطقهم شبه المستقلة تماماً عن المركز في بغداد، يتحالفون ويستعدون للقتال لإخلاء أجزاء من العراق/ الوطن من "احتلال" داعش! كلّ هذا يحدث، وثمة "دولة" تتراقص (هناك) على وقع مساومات وضغوطات "قوات الحشد الشعبي" الشيعية، الممتثلة لتوجيهات إيران من جهة، و"استراتيجية" الولايات المتحدة باسم "التحالف الدولي" وتخوفاتها، نصف الصادقة نصف الكاذبة، على سكّان المناطق من غير الشيعة، وابتزازاتها بالمقابل من "ضرباتها الجوية"، من جهة أخرى!
بعد التدقيق، ألْا نجد أنّ التقسيم باتَ أمراً واقعاً على أكثر من صعيد، وخاصة ما يتعلق بما يُسمّى "الإمساك بالأرض" بالسيطرة عليها؟ فإذا كانت هذه حقيقة؛ فما "حقيقة الدولة" المنحصرة في بغداد؟ أو بالأحرى: الدولة المحاصرة في بغداد بموافقات المرشد الأعلى في غير بغداد؟
* * *
بدأت بألف مليار دولار نُهِبَت بدعوى المحاصصة: والمحاصصة وليدة الاحتلال: والاحتلال كرّس الطائفية: والطائفية تشير إلى الاستئثار: والاستئثار يقود إلى الفساد: والفساد لا يبني دولة مواطنين متساوين بقدر ما يفتت الأوطان ويفقرها.. فما بالنا بـ"ديمقراطية" تُخاط على مقاسات أجسام غريبة آتية من كواكب بعيدة!
ومع هذا وذاك، فإنّ "شركاء الخراب" هؤلاء لا يخجلون من طرح سؤالهم المخادع: مَن خلقَ داعش؟
ونجيبهم: مِن صُلبكم أنتم، دون سواكم، خرجت داعش وأمثالها بالأمس، وتتمدد اليوم، وتتوالد غداً.
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.