رِدة
انتهى إسهامنا المشوّه والمتواضع في حركة التحرر من الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين، على نحو كارثي، إلى الاستقرار في «دول» صغيرة مشوّهة بدورها، منعت توجيه النزعة «التحررية» نحو الانخراط في تيارات التغيير الاجتماعي.
وتذكيراً، فإن حركة التحرر من الاستعمار قادت على الأغلب إلى إعادة إنتاج أطر سياسية واجتماعية بالية، تعتبر في ذلك الوقت، وفي ذلك السياق، حركة معاكسة لتوجهات التاريخ؛ وعملياً، أدخلتنا حركة التحرر من الاستعمار في «عصر الأسر الحاكمة» وأنظمة الحكم الوراثية والملكيات المطلقة. والغريب أن هذا لم يثر استهجان أحد، بينما واجهت النماذج القليلة، التي عاكست ورفضت هذا التوجه، عداء غربياً مستحكماً. ويمكن اعتبار جمهورية عبد الناصر والدولتين البعثيتين في العراق وسوريا، وكذلك ليبيا القذافي، بل وحتى تونس والجزائر، أمثلة تستحق التأمل.
ومن اللافت، أن نموذج مصر والعراق وسوريا، الذي رفض إعادة إنتاج «عصر الأسر الحاكمة»، باعتماد «الانقلاب» والحكم العسكري، حاول إنتاج دولة مدنية من خلال تحويل السلطة العسكرية إلى مؤسسة حزبية، بأيديولوجيا اجتماعية عكست تطلعات أبناء الريف، الذين اجتاحوا «المدينة السياسية» العربية، ولم يجدوا إطاراً يعملون من خلاله، في سياقها، سوى الجيش.
ومن الجدير الانتباه، إلى أن النظام الملكي «الملطّف» في الأردن، هو صيغة تم التوصل إليها على وقع التجارب المصرية والعراقية والسورية، حيث مثّل الجيش إطاراً سياسياً لتمثيل شرائح اجتماعية واسعة مهمشة؛ ولم يكن من الممكن عدم ملاحظة أن الجيش مكوّن في أغلبه من هوامش البادية الواسعة في بدايات تأسيسه، وأن التوسع الإداري في أجهزة الدولة قاد بدوره إلى تمكّن كتلة واسعة من أبناء الريف في المؤسسات المدنية في جسم الدولة، وكذلك المؤسسات العسكرية لاحقاً؛ وكان من المستحيل كذلك تجاهل ذلك مع نشوء حركات تستنسخ تجربة الضباط الأحرار المصريين، وتتطلع إلى دور أبناء الهوامش الريفية في العراق وسوريا.
ذلك، أحبط محاولة إنشاء حكم ثيوقراطي صريح في الأردن، تماماً كما أغلق الطريق أمام ذلك في مصر وسوريا والعراق.
وصولاً إلى يومنا هذا، نكتشف محاولات مستميتة للانقلاب على معادلات هذا الواقع. وهذا واضح من معنى الحرب الكونية التي أطاحت بالدولة البعثية في العراق، والانخراط الغربي القوي في الحرب الدموية التي تحاول الإطاحة بالدولة السورية اليوم، ومن تحول النخبة السياسية في الأردن إلى نوع من «أسرة حاكمة» مغلقة، تهمش على نحو فادح الأطراف الاجتماعية والإدارية على حد سواء.
وهنا، يمكننا أن نرى بوضوح رِدة تاريخية تعيدنا إلى محاولات فرض الملكيات والحكم العائلي، في منتصف القرن العشرين، على جملة البلدان العربية؛ وهذا واضح على الأقل من طبيعة الاصطفاف العربي الغربي، الذي يتمترس وراء معارك «التغيير» الدموية في العالم العربي، التي خلقت مساحة عمل وتفريخ للجماعات الإرهابية.
لا أعتقد أن القوى المتورطة في الفوضى العربية لا تعرف أن أي فعل خال من مضمون اجتماعي حقيقي لا يستقطب في واقع الأمر سوى الإرهابيين. من المؤكد أن هذه القوى تعرف ذلك. لذا، يمكن التعويل على أن الأحداث قادت هذه الأطراف إلى إدراك أن خلق مساحة عمل «وطنية» «محلية» للمجموعات المسلحة لن تقود إلى تخلي الإرهاب عن أساليبه العدمية، أو دفعه إلى الانكفاء داخل حدود جغرافية معينة، أو التحول إلى قوة سياسية!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.