رحلة عمياء وراء العلم
اسم وسمعة رائجة لنوع محدد من العلم، واستخدام عشوائي للمفردات والمصطلحات، يجعلان كثيراً من الناس يؤمنون أن العلم مجرد. ويقصدون بالطبع أنه موضوعي وحيادي، ومنزّه عن التحيز. ولا "يعرف في الحق لومة لائم"، كما يقال.
لا أقصد بهذا التذكير أن "الموضوعية"، بحد ذاتها، لا تزال تشكل تحدياً كبيراً بالنسبة ليوميات العلم في مختلف أنواعه؛ لكني أجد أسباباً للتذكير بأن العلم، مثله مثل الشعر المذموم، قابل لخيانة الموضوعية، وفيه مديح وهجاء وفخر وخلاف ذلك من الأغراض الذاتية. وإلا فما معنى ذلك الدور الذي لعبه العلم وتلك المجموعة من العلماء الأفذاذ فعلاً، التي خدمت النازية!
وأريد كذلك التذكير بأن مفهوم "العلم"، هكذا بمفردة واحدة، ومن دون صفة لاحقة، هو مفهوم مخادع؛ إذ قد يكون في الحقيقة مثله مثل الدين الرسمي للدولة، علْماً رسمياً لا غير. ولحسن الحظ أن هذا لم يعد مسلمة مطلقة. لذا، في الطب، وهو إحدى مجالات العلم الهامة والمذهلة، بات يستخدم على نطاقٍ شائعٍ استخدام مصلحي "الطب الرسمي" و"الطب الشعبي". طبعاً في الإشارة إلى موثوقية وعلمية الأول، وأفضليته المطلقة على الثاني. وهذا يقودنا إلى التساؤل حول هوية العلم الرسمي.
في محاولة الإجابة على ذلك، لا يمكنا إلا أن نتذكر، مثلاً، أن الطب الصيني، وهو نتاج حضارةٍ عريقةٍ، بالكاد يُعترف ببعض قليله بوصفه "علْماً"، رغم شيوعه ونتائجه وممكناته المذهلة، ويتم التعامل معه باعتباره "طب شعبي"، وربما جاهلاً أيضاً. بينما نفايات شركات الأدوية والصناعات الكيميائية الغربية ذات الأعراض الجانبية المدمرة، التي ثبتت فداحة أضرارها لاحقاً، هي جزء لا يتجزأ من علوم العلاج الطبي الرسمي المعترف بها.
وبهذا المفهوم، يتضح أنه يراد أن يكون "العلم الرسمي" هو حصراً العلم الغربي!
وهذا العلم الرسمي (الغربي) يمارس سلطة وهيمنة فادحين ليس فقط عبر الشركات، بل كذلك من خلال المؤسسات العلمية والأكاديمية الغربية، المدججة بالأموال والميزانيات والحصانات التي توفرها المقولة الأمنية المغلقة على فكرة "الأمن الوطني". ويمارس هذا "العلم" هذه السلطة على علوم غربية كذلك، لا تخدم تلك المنظومة الفادحة. لكن المشكلة العويصة هي أن هذه الهيمنة التي توفرها سلطة العلم الغربي، تمتد لتطال مساحة واسعة من العالم، وتقيد جهوده العلمية بمنطلقاتها وأولوياتها وبخدمة منظوماتها. وهذا بالطبع، لأن الهيمنة ليست مفهوماً مجرداً، بل موقفاً مسيطراً، ومتحكماً، وله أدواته الجبارة، الفاعلة والفعالة.
والأفدح هنا، هو أن الهيمنة تجر التبعية، وتقود إلى الأخذ بالمسلمات الجاهزة على عواهنها. إلى تقديس العلم الرسمي (الغربي)؛ وبالتالي إلى عالم من الشعوذة التي لا فضل لها وفيها، إلا إذا اعتبرنا أن في أسهم الشركات الاحتكارية الغربية وأرباحها فضيلة ما!
وفي عالمنا الذي صنفه الاقتصادي الفرنسي الشهير سوفيه كعالم ثالث (1952)، تبدو هذه التبعية أمراً مستشرياً حتى في العلوم الإنسانية، التي تتيح بطبيعتها قدراً من التحرر وتجنب الخضوع للمنظومة الثقافية الغربية، ومحاولة استنطاق الإرث الثقافي والواقع المحليين. ويتزامن هذا، بالطبع، مع إمعان الغرب بدراستنا، ومحاولاته فرض نتائج دراسته لنا، علينا، كونها مسلماتٍ علمية.
لقد سبق أن فرض الغرب علينا التسليم بتصنيف العالم إلى ثلاث فئاتٍ رئيسة (وهناك رابعة منسية): هم العالم الأول (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا واليابان وجنوب إفريقيا). وعالم ثان هو أعداءهم الأشداء (الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية)، وعالم ثالث هو نحن، الدول التي لا تقع ضمن العالمين الأول والثاني.
وبالنسبة لي، فإن هذا تصنيف يغيب عنه العدل والواقعية والصحة إلا في لحظة واحدة، هي تلك اللحظة التي تم فيها وضع أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا واليابان، جنباً إلى جنب مع نظام جنوب إفريقيا، الذي كان حينها أسوأ نظام عنصري في العالم، الذي لم يكن قد عرف "إسرائيل" بعد.
والفارق بين هؤلاء وهذا البلد الأفريقي، هو أنه انتصر على عنصريته، بينما لا يزال الغرب يتخبط في معاركه العنصرية!
وعودة على العالم الرابع المنسي، الذي أشار إليه سوفيه في تصنيفه لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، باعتباره يمثل مجموعات مهمّشة في بلدانها أو فئات إثنية أو قومية من دون دولة، فنتذكر أن الغرب يحاول أن يفعل مع بعض دول "العالم الثالث"، ما كان فعله طوال عقدين مع دول العالم الثاني. أي، تفتيت الكيانات المستقلة إلى كانتونات اثنية وطائفية مستلبة (للغرب طبعاً).
ولـ"داعش"، بكل تأكيد، نصيب مضمون إن حالف النجاح الإرادة الغربية!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.