رائحة قدمي النتنة

رائحة قدمي النتنة
الرابط المختصر

واحد وستون عاماً أمضاها ناظم حكمت خائفاً من القتل؛ لم يكن يتوجس ذلك من قاتل مأجور أو عصابة خارجة عن القانون، لكن من أجهزة الدولة التي تحمس في بداية حياته للحركة التي أسستها، قبل أن يختلف مع النظام الذي تبنته!

 

كان الهرب من الدولة العثمانية قد أفضى إلى تأسيس النظام الأتاتوركي، الذي حكم على الشاعر بالسجن خمسة عشر عاماً. وحينما خرج من السجن مستفيداً من عفو عام، اعتقل مجدداً وحكم عليه بالسجن ثمانيةً وعشرين عاماً قضى منها إثني عشر عاماً، ثم خرج موقناً أنه سيقتل في المرة التالية، وحمله هذا الهاجس إلى الاتحاد السوفيتي واستقر فيه نهائياً، وعاش هناك حتى مات في مطلع ستينات القرن الماضي، ودفن في مقبرة المشاهير في عاصمة الدولة السوفيتية، مع لوحة على جدار الكرملين تذكر اسمه بالتقدير والتبجيل الإنسانيين، لا تزال قائمة لليوم.

 

لقد استدعت القصائد التي كتبها الشاعر الشيوعي أحكام سجن طويلة، وأفضت إلى سحب الجنسية التركية منه. وظل إلى آخر عمره يشعر أن وطنه يلاحقه، وأنه لن يكف عنه حتى يقتله بالطريقة "الداعشية" المشهورة التي تستخدم السيف.

 

وهذا سيحضر في حكايته مع روايته الشهيرة اليتيمة التي حملت اسم "الحياة جميلة يا صاحبي"، العبارة التي يكررها اسماعيل، التركي في الرواية، صاحب الشبه الكبير بالمؤلف، ولا يختلف عنه إلا في أنه لم يكن منشغلاً بالخوف من القتل، ولكنه لاقاه فعلاً، في الخيال الروائي، حينما ترك موسكو وعاد إلى وطنه التركي.

 

ربما كان اسماعيل هو ناظم حكمت، الذي كان يحاول بالكتابة أن يعالج نفسه من مخاوفه بالقتل بالطريقة "الداعشية"، التي لم يكن يمارسها آنذاك تنظيم مدان خارج عن القانون والحياة المدنية، بل دولة حديثة بانفعالات قومية، ونزعات غربية!

 

سيرة ناظم حكمت العامة تدفعني للتساؤل إن كان الشاعر الذي يتصل بأسرة محمد علي باشا قد عرف أن اسمه الأول بالعربية يشير إلى الشعر ونظمه، أم كان يرى في اسمه بعضاً من تعسف وطنه بحقه!

 

السؤال لا يخصه هو بقدر ما يخصنا نحن. نحن الذين آن لنا أن نتساءل عن صورتنا في التاريخ الحديث، وقت نهضت شعوب العالم ترفع راية التحرر والعدالة الاجتماعية، وكنا بجماعاتنا وكياناتنا السياسية الهشة نمالئ الغرب الرأسمالي من موقع صغير، ونكرس أنفسنا لمنافقة أعدائنا ومغتصبي أرضنا.

 

وهذا بالذات يعيد التذكير بفضل أبناء جيل الشاعر الراحل من العرب. أعني أولئك الذين جايلوه في موسكو، وسجلوا مآثر فردية في الخروج الحضاري الهائل عن التخلف وفي التحرر من الرجعية المحلية.

 

ومثال هؤلاء الشيوعيان أسد قاسم وصدقي نجاتي وآخرين..

 

سأظل أذكر أن ناظم حكمت الأنيق مثل زعيم سياسي شعبي، اضطر للتخلي عن زوجة روسية أحبها لأنه كان يحرص على ترك رائحة قدميه على حالها، لأنها تذكره بسوء حال بلاده، والظروف النتنة التي أخرجته من وطنه، وتبقيه بعيداً عنه!

 

ماذا أفعل أنا هنا؟

 

وماذا أريد أن أقول، في الواقع؟ وماذا أقصد، حقيقة، من استذكار هذا الشاعر التركي المنسي؟ وماذا لي منه، فعلاً، سوى محاولة تفسير لماذا لا تزعجني رائحة قدمي النتنة!

 

أتذكر ناظم. أحب ناظم. أفكر بناظم حكمت!

 

  • ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

 

أضف تعليقك