دُوَل أم ميليشيات؟  

دُوَل أم ميليشيات؟   
الرابط المختصر

 

اشتباكات حُبلى بمعارك. معارك تًلِدُ حروباً. حروب تنشرُ موتاً. ويمتد المسلسل ويطول إلى حدّ الاختناق بدماء البشر وحرائق المدن!

 

خمسون بالمائة من الأراضي السورية باتت تحت سيطرة داعش، حتى يوم الجمعة الماضي- تاريخ كتابة هذا المقال -، بعد اجتياحها لتدمر، إضافة إلى آخر نقطة حدود مع العراق، ما يعني أنّ الدولة السورية فقدت القدرة على التحكم بمن يدخل إليها ويخرج منها على نحوٍ شبه كامل!

 

محافظة الأنبار العراقية بمعظمها، هي الأخرى، أصبحت ضمن سيطرة داعش، ناهيك عن احتلالها لثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل، منذ العام الماضي، إضافة إلى إحكام قبضتها على الجانب العراقي من نقطة الحدود نفسها! والدولة العراقية، على وقع الانسحاب المحيِّر لقطعاتها العسكرية من الرمادي وتخليها عن معداتها الثقيلة وذخائرها غنائمَ سهلة (سيناريو الموصل يتكرر!)، عادت للجوء مذعنة إلى ما يُسمّى "الحشد الشعبي" للمساعدة على تخليص تلك المناطق الشاسعة من قبضة داعش!

 

نحن حيال ما تُدعى "دولة"، بالمقابل من "داعش".

 

والدولة، في الحالتين السالفتين، تتعرض للإنهاك والتآكل يوماً بعد يوم، وتُهْزِم أمام تنظيم غامض، مسلّح حتى الأسنان تسليحاً يوازي جيشاً نظامياً، وممولاً في ظروفٍ دولية وإقليمية مشبوهة، ومتحركاً بانسيابية مفاجئة دائماً، وإرهابياً بكل معاني الكلمة! كيف يحدث هذا، ووفق هذا الإيقاع المتسارع، دون أن يُضطر الواحد منا لأن يتساءل عمّا تبقى من الدولة كمفهومٍ مُنْجَز يتمثّل على الأرض؟ ودون أن يتساءل إذا ما كان "رجالات الدولة" يستحقون، فعلاً، مواقعهم وألقابهم، بناءً على:

مسلسل الفشل في إدارة البلاد، والتعامي عن ألغام التفتيت الداخلية وأسبابها، والحيلولة أو الحد من متوالية الانهيارات على أكثر من صعيد حيوي له علاقة بالدولة كمبدأ. انهيارات أقرب إلى فضيحة كاملة الأركان استوجبت طلب المزيد من الإمداد التسليحي، والإشراك بالتخطيط العسكري الاستراتيجي، وباستقدام لفرق قتالية خاصة من دول الإقليم (إيران)، والغرب (الولايات المتحدة)!

 

غير أنّ الأخطر في تجليات تلك الانهيارات هو لجوء بقايا الدولة، هَرَباً من سقوطها الماثل قريباً، للميليشيات المسلحة، من داخل أراضيها وخارجها!

 

إنّ الدولة التي تتوازى مع الميليشيا وتتحالف معها إنما تعمل، في الشكل والمضمون، على التخلي عن صفتها الأولى. تتخلّى أمام نفسها، وأمام العالم، وأمام عدوها في خِضم الصراع الدائر لتصبح مثله: مجرد قوة من قِوى الاحتراب!

 

في العراق: هنالك ضرورة إشراك "الحشد الشعبي" لأن الدولة أعجز عن أن تقوم بواجبها في حماية وطنها ومواطنيها. وهذا الحشد ليس سوى مجموعة ميليشيات مذهبية شيعية، مسلحة، ومنظمة، وممولة، ومرتبطة بدولة مجاورة، إيران، وذات نزوع ثأريّ حيال السنة من العراقيين عملت "دولة ما بعد صدام" على تغذيتها وتسمينها حتى باتت الرديف لها وذراعها في "تصفية الحسابات" مع الماضي، أشخاصاً وجماعات!

أهكذا تُبنى الدول، أو بالأحرى، يُعاد بناؤها!

 

في سوريا: هنالك ضرورة التحالف مع "حزب الله" اللبناني وإشراكه في المعارك داخل البلد، كونه أحد أركان
"معسكر المقاومة" – بحسب خندق الاصطفافات في المنطقة. والحزب، مهما تحايلنا على اللغة ومفرداتها، فإنّ تركيبته لا تتنافى مع تركيبة الميليشيا في النهاية. كما لا أحد ينكر حقيقة كونه تنظيم مذهبي شيعي، مرتبط بإيران، تمويلاً وتسليحاً، أسوة بشتى فصائل ذاك "الحشد" في العراق. مع ملاحظة أنّ تصديه "لإسرائيل" في أكثر من مناسبة على أرض لبنان، وصموده أمام ضرباتها، لا يعفيه من المساءلة عن حقيقة بقية المحطّات التي سجّل حضوراً له فيها، ولخدمة مَن: الشعب السوري، أم سلطة الدولة (وتحالفاتها) غير الآبهة بإرادة الشعب إلى درجة إدخاله الجحيم؟

 

تتوالى المعارك في العراق وسوريا، وفي كل معركة جديدة يتنامى حضور الميليشيا متوازياً مع خفوت الدولة، ليتحوّل هذا الحضور، بالتراكم والوقت المفتوح، إلى ضرورة لا مهرب منها! يتحوّل إلى رقم يصعب شطبه من أيّ تسوية قادمة، إقليمية ودولية، ترسم مستقبل الأوطان. والأدهى، أنّ كثرة التنظيمات المسلحة المتواجدة على الأرض وتعدد انتماءاتها، خارج شرعية السلاح الرسمي، وانخراط بعضها في لعب دور الدولة المغيّب بالنيابة عنها، إنما يدل على أنّ الأخيرة آخذة بالتحلل عملياً. ليست متحللة فقط؛ بقدر ما باتت مؤسساتها وركائزها محل ريبة وتشكك أصلاً، من حيث القوى والمصالح التي تمثّل.

 

هذا ما نشهده في اليمن وليبيا أيضاً.

وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الهوية الحقيقية لـ"دولة" ما بعد الحروب في تلك البلدان.

أهي دولة بعقلية ميليشيا وأهدافها، أم ميليشيا خطفت الدولة برئيسٍ مُنتخَب/ مفروض؟

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك