دروس من المهاتما غاندي

دروس من المهاتما غاندي
الرابط المختصر

كثيرة هي الوقائع والأحداث التي تشكّل، بذاتها، تلخيصاً لتاريخ طويل يتحوّل بسببها إلى درسٍ يستوجب قراءته والأخذ بمنطوقه المتضمن حِكمة ما. وقائع وأحداث لا تستغرق، ربما، ساعات قليلة أو أيام معدودة، لكنها تكتسب أهميتها في كونها تدفعنا لأن نفكّر ونعيد التفكير بعقود مضت على ما هو أعظم منها وأشدّ وطأة.

 

يوم السبت الماضي، الرابع عشر من آذار الحالي، أُزيح الستار عن تمثال للمهاتما غاندي، بطل استقلال الهند وكفاحها السلمي اللاعنفي ضد الامبراطورية البريطانية العظمى، توافقاً مع مرور سبعين سنة على هذا الاستقلال، ومائة سنة على عودة غاندي للهند من جنوب إفريقيا ليباشر حركة عصيان مَدَنيّ شاملة أدّت إلى خلخلة الهيمنة البريطانية والحطّ من هيبتها، لينتهي الأمر بخضوع "الأقوى الغني" لإرادة "الضعيف الفقير". ينتهي الأمر بانتزاع جوهرة التاج البريطاني من على رأس حامله، ثم تكرّ سُبحة المستعمرات واحدة بعد الأخرى فتنكمش الامبراطورية تدريجياً وتنحصر داخل جُزُرها.

 

أن يُرْفَع تمثال للمهاتما غاندي تخليداً لذكراه بوصفه بطل استقلال، فهذا حَدَث عادي وطبيعي إذا ما وقع في الهند، أو حتى في بلادٍ شكّل لنضال شعوبها مِثالاً يُحتذى. غير أنّ التمثال رُفع في وسط لندن، في ساحة البرلمان، وإلى جوار تمثال ونستون تشرشل بكل ما يمثّل: وزير مستعمرات، رئيس وزراء، وبطل انتصار بريطانيا في الحرب العالمية الثانية. إلى جوار تمثال هذا الرجل المدجج بـ"أمجاد وهيبة" شخصه السمين وبلده العظيم، وقف تمثال غاندي بلباسه المتقشف المعروف وجسمه الناحل. كأن الزمن تكفّلَ بتوفير الإجابة الحكيمة على أمنية تشرشل الواردة في مذكراته، حيث كتب مفصحاً عن رغبته في أن يُسحق غاندي تحت أقدام فيل ضخم عقاباً على تصديه للوجود البريطاني! لكنّ غاندي لم يُسحق، وتشرشل خسر في أول انتخابات إثر انتهاء الحرب.

 

قد تكمن الرموز المبثوثة في هذا الحدث في نطاق دراسة شخصيتين تاريخيتين، لكنها، أيضاً، تَشِعُّ في تفاصيل مصير بلدين: الهند، وبريطانيا. مصير البلدين وكيفية تعاملهما مع بعضهما بعضاً بعد سنوات القهر والاستعباد والاستعمار المديد. ولمزيد من دواعي التأمل، يُستكمل الحدث بثلاثة تفاصيل ذات أهمية بالغة:

 

الأوّل: أنّ مَن أزاح الستار عن التمثال هو ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، مدركاً حتماً لحجم المفارقة اللاذعة؛ إذ جُمِع النقيضان في مكان واحد، وفوق أرض كانت عدوة. كأنه، بصفته هذه إنما يعتذر لا عن سَلَفه فقط، بقدر ما يعتذر عن تاريخ بلد! ويدلي بالشهادة التالية: غاندي أحد أعظم الشخصيات في السياسة العالمية.

 

الثاني: أنّ ممثل الهند في هذا الحدث، وزير المالية، أفضى بخلاصة تختزنُ حِكمة الهند بكل تاريخها، وتعدد دياناتها، وكافة طبقاتها الاجتماعية، وكذلك – وهذا أمر في غاية الأهمية – بما تحمل من طموح كبير لبناء مستقبل أفضل؛ إذ قال: "تسمو الدول فوق المرارة والعَداء." فإذا كانت الروحانيات الهندية تطبع الشخصية الهندية وتبعدها عن التعصّب والعنف، فإنها، كما يبدو بسطوع، تطبع الفهم السياسي لمن يديرون بلداً كبيراً بوسع قارة، وعدد بَشَر يقارب الصين!

 

الثالث: أنّ هيئة غاندي المنحوت كتمثال وقفت بما كان يرتديه حين دخل البرلمان البريطاني (وزرة قطنية فوق جسم نصف عار)؛ إذ استلهمها الفنان الانكليزي من صورة له موجودة هناك؛ حيث بالمناسبة قابل الملك جورج الذي سأله: ألْا تشعر بالبرد وأنت مكتف بهذا الرداء؟

وكان ردّ المهاتما غاندي: ما ترتديه أنتَ يكفينا نحن الاثنين!

"الفقير" يُرسل خلاصة عذاب البشرية ويضعها في أذن "الغني." : فقرنا سببه غِناكم، باختصار، ولو ثمة عدالة في التاريخ لَمْا كنا على هذا الاختلاف والتباين، ولتقاسمنا الخير معاً.

خلاصة عذاب البشرية بلغت أذن الملك، لكنّ أحداً لا يعرف إذا ما كانت بلغت قلبه.

 

*   *   *

يبقى أن أشير إلى الذهنية المتقدة لرجلٍ بات "أيقونة" كونية بكل المعاني، حيث أجد في واحدة من مقولاته وعيه لمعنى إرادة الفوز رغم الصعوبات:

* في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تربح أنت.

 

وفي مقولة أخرى رؤيته الحكيمة والسمحة بعيداً عن الضغينة وما يستتبعها من شرور، إذ يقول:

* إنّ شريعة "العين بالعين" لا تنتهي إلّا بجعل العالم كلّه أعمى.

بالمناسبة: أوليس عالمنا العربي اليوم أكثر من أعمى؟

أولسنا بحاجة لدروس هذا المعلّم الهندي؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.