درس "جول جمال"
أتساءل عن صَبيٍّ، يعبرُ كلّ يوم في طريقه إلى المدرسة بشارعٍ في حي الدُقي بالقاهرة، ويرى على جدار إحدى البنايات يافطة صغيرة زرقاء كُتب عليها "شارع جول جمال". أتساءل عن هذا الصبي المصري، وآخر في حي المهندسين بالجيزة، وثالث في الإسكندرية، ورابع فلسطينيّ في رام الله، وخامس سوري في دمشق، وسادس في اللاذقية. أتساءل عن هؤلاء جميعاً إذا ما كانوا يتساءلون، بدورهم، عن هذا الرجل صاحب الاسم، وما أهميته لتُسَمّى الشوارع باسمه! مَن هو، من أيّ زمنٍ جاء، وإلى أيّ مصيرٍ ذهب، ولماذا علينا أن نولد ونكبر ونهرم ونشيخ ثم نموت، ويبقى هو (هذا الاسم) معلّقاً فوق رؤوس أجيال تلو أجيال!
مَن هذا الـ"جول جمال"؟
بالنسبة لي، أنا الذي تفتّح وعيه على زمنٍ صاخب محتشد بأحداث كبيرة، كان لذاكرته أيضاً أن تحتفظ بأسماء لا تُنسى ذات صلة بتلك الأحداث. لا تُنسى ليس لأنَّها مذكورة في كتب التاريخ المدرسيّة حيث ينبغي أن تنتقل من جيل إلى جيل. وليس لأنها ترمز لسلطةٍ ما من السلطات المتحكمة بمصائرنا ورِقاب شعوبنا– كما هي علامة هذا الزمن. وليس لأنها مقررة على أبنائنا جَبْراً لا اختياراً، من دون إقناع بأهمية تلك الأسماء المقعقعة في وقْعها السمعي، الهامشية في تاريخ منسيّ. لا، ليس لجميع تلك الأسباب ما زالت ذاكرتي تحتفظ بهذا الاسم المعلّق على أكثر من شارع في أكثر من مدينة عربية: إنها تحتفظ به لأنه باتَ يسكن فيها بوصفه تمثيلاً صافياً، أقرب للأسطورة، للموت النبيل من أجل قضية نبيلة كبرى متفق عليها.
مَن هذا الـ"جول جمال"؟
جول جمال، جول يوسف إلياس جمال، شاب سوري من اللاذقية، ولد عام 1932 وتوفي عام 1956 عن أربع وعشرين سنة. مات صغيراً وهو في عُمْر الورود – كما يُقال. وكان وردةً بكل المعاني، وأوّل تلك المعاني، وربما أهمها، أنه ذهبَ إلى موته مختاراً عارفاً أنْ لا عودة أبداً.
ستقولون أنّ موتاً كهذا لم يعد مستغرباً؛ فها نحن نشاهد ونقرأ كلّ يوم عن أُناس يذهبون إلى موتهم انتحاراً في سبيل قضية. يفجرون أنفسهم في أعدائهم، ويدمرون تحصينات، ويقتحمون معسكرات، ويحطمون أسواق ويجندلون بَشَراً، إلخ. نعم، هذا صحيح، غير أنّ فارقاً أكثر من مهم يحول دون إقران جول جمال بهذا الرهط من المنتحرين. ولكي نصل إلى هذا الفرق، ينبغي أن أسرد "حكاية" جول جمال، المجهولة تماماً لدى أجيال وأجيال.
يُحكى أنّ شاباً سورياً التحق بدورة تدريب عسكرية في مصر عام 1954، مبعوثاً من حكومته، وكان برتبة ملازم ثان. وحدث خلال دراسته أن حازت البحرية المصرية مجموعة زوارق طوربيد، فالتحق بدورتها وأجاد قيادتها. ثم حدث وأن قام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، فثارت ثائرة بريطانيا العظمى وفرنسا وتواطئتا مع "إسرائيل" وشنتا على مصر غزواً سُمّيَ وقتها بـ"العدوان الثلاثي". عدوان كان من نتائجه أن قُصِقت مدينة بورسعيد من الطيران البريطاني قصفاً غير مسبوق في تدميره، ما أثارَ جول جمال ودفعه لأن يطلب دوراً يلعبه في التصدي لهذا العدوان. ويُحكى أنّ البحرية الفرنسية أرسلت "جان بار Jean Bart" أو "تنين البحر الأبيض المتوسط"، وهي أكبر مدمراتها وأول سفينة مزودة بأجهزة رادار، وعليها 88 ضابطاً و2055 جندياً بحرياً، وذلك لتكمل تدمير المدينة. وهكذا صار الدور التطوعي لهذا الشاب السوري، مخالفاً لأصول عدم مشاركة غير المصريين بالحرب، وبعد موافقة رئيسه، أن يقود زورق الطوربيد برفقة زميلين بزورقين أحدهما سوري أيضاً والآخر مصريّ، والتوجه به صوب ذاك "التنين" للارتطام به وتفجيره شمال بحيرة البرلس. وهكذا كان: اكتسحَ الزورق بقائده الشاب جسم المدمرة الفولاذي، وانفجر التنين!
انتهت حكاية جول جمال هنا، لكنّ أشباهها من حكايات هذا الزمن ليست من طينتها النبيلة أبداً.
فلنتأمل حيثيات تلك الحكاية. فلنتأملها جيداً. عندها سيتضح الفارق الهائل بين الموت النبيل، والموت الذي لا يحيط بحقيقته سوى وصفه بـ"الموت الحقير." سيتجلّى الفارق الحاسم بين جول جمال/ الوردة، وأسماء مقعقعة لا توحي إلّا بأصناف أشواك موطنها الجحيم.
حكاية جول جمال حكاية قديمة عمرها 59 سنة. حكاية ينبغي أن تتجدد عندما تُقرر ضمن مناهج مدارسنا، في كتب التاريخ، كونها تشكّل درساً في معنى الوطن والوطنية.
أليس كذلك، يا مَن تحشدون ذاكرة أبنائنا وبناتنا بمقررات تُفقد الوطن معناه العميق، وتحرف الدين عن إنسانيته السمحة، ثم تتباكون على ما صنَعَت أياديكم؟
أعود لأتساءل عن حشود من طلاّب وطالبات عَرَب إذا ما سوف يجيبون، ذات يوم، عن أهمية صاحب اسم الشارع الذي تقع فيه مدارسهم؟ أو اسم مدارسهم نفسها؟
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.