داعش تهدد مكانة فلسطين في أوروبا
مثير للإعجاب حقيقة أن الشعوب الأوروبية ما تزال قادرة على التعاطي مع القضية الفلسطينية بمعزل تام عن الكوارث السياسية والبشرية التي ترتكب في منطقتنا العربية. هذا الأسبوع بالذات أقرت مفوضية الاتحاد الأوروبي قراراً ملزماً لجميع الدول الأعضاء يقضي بوضع ملصقات تشير بوضوح إلى مصدر البضائع الإسرائيلية القادمة من المستوطنات، وهو ما يعني عملياً دعماً مباشراً لحملة المقاطعة القوية والفعالة التي تشهدها أوروبا لمنتجات المستوطنات. يضاف إلى ذلك موجة التصويت في عدة برلمانات أوروبية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، عدا عن الدعم الشعبي الكبير لأية تحركات مؤيدة للنضال الفلسطيني.
لماذا ما يزال ذلك مثيراً للإعجاب؟ لأننا إن قمنا بمقايسة لما يجري بين العرب أنفسهم لوجدنا أن مكانة فلسطين تراجعت عربياً لصالح التطرف ولصالح التركيز على ما يجري في سوريا، بل إن نسبة لا بأس بها من العرب أصبحت تقول علناً أن ما يمارس في سوريا أقل بكثير مما تمارسه قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين.
ويثير ذلك الإعجاب أيضاً لأنه ليس من السهل أن يتمكن المواطن الأوروبي العادي، بل وحتى المثقف والسياسي، من التفريق بين وحشية داعش وعدالة المقاومة الفلسطينية. وربما من الطريف الإشارة إلى أن أحد الأسباب الثانوية لذلك هو نظرية المؤامرة التي تجد أنصاراً لها في أوروبا كما في كل مكان في العالم، حيث يعتقد طيف لا بأس به أن داعش هي لعبة المخابرات الأمريكية ولا علاقة للعرب بها!
ويثير ذلك الإعجاب بعد لأن الرأي العام في أوروبا يشكل ضغطاً لا بأس به على "إسرائيل" وعلى الرأي العام فيها يضع حدوداً معينة لا تتجاوزها. أكاد أجزم مثلاً أن "إسرائيل" لا تقوم باستغلال الفوضى في المنطقة لتهجير الفلسطينيين من الضفة خوفاً من ردود الفعل العالمية التي ستكون أقواها في أوروبا.
هذا هو الجانب المثير للإعجاب، ولكن هناك جانب آخر مثير للقلق. فاللوبي الصهيوني يتحرك، والمؤيدون لـ"إسرائيل" يتحركون كذلك. هناك ثغرات واسعة بدأت بالظهور مؤخراً ولم يتوان هؤلاء عن استثمارها. أخطر تلك الثغرات هي تنامي التأييد لداعش بين عرب أوروبا، أو على الأقل تنامي التواطؤ معها. إحصائياً وقياساً على أعداد العرب المتواجدين هنا فإن نسب الالتحاق بداعش لا تقل عن النسب المماثلة في العالم العربي، بل إن نسبة الملتحقين العرب بداعش من بلجيكا –على سبيل المثال- قياساً على عدد البلجيكيين ذوي الأصول العربية تزيد عن تلك النسبة القادمة من مصر. ما يزيد الأمور سوءاً أن بعض من كانوا ينشطون للدفاع عن الحقوق الفلسطينية أصبحوا اليوم في خانة التبرير لداعش، وهو ما قد يسهّل مهمة أنصار "إسرائيل" بإلصاق تهمة الإرهاب بحماس مستغلين خلفيتها الإسلامية التي يحاولون مساواتها بإسلامية داعش.
تصاعد الخشية –الحقيقية والمضخمة- من الإرهاب الداعشي في أوروبا تستغله قوى اليمين الأوروبي في التعبئة ضد المهاجرين الجدد، ولكن المفارقة أن تلك القوى اليمينية المعادية للمهاجرين، أو المتحفظة إزاءهم على أقل تقدير، تتميز بموقف شديد التطرف إزاء أمريكا و"إسرائيل"، وبالتالي تعتبر ضمنياً مؤيدة للفلسطينيين. وقد يكون ذلك مفهوماً جزئياً إذا عرفنا أن سبب عداءها لـ"إسرائيل" يعود للجذور النازية الجديدة التي تتغذى منها كثير من حركات اليمين الأوروبي. ومع ذلك فإن هذه الحركات قد تغير موقفها تدريجياً، خصوصاً مع تحول المهاجرين شيئاً فشيئاً إلى حواضن اجتماعية للراديكالية الإسلامية. حتى اليسار الأوروبي الجذري في موقفه من "إسرائيل" (بعضهم يطرح علناً عدم شرعية وجودها أصلاً) بدأ يساوره القلق من المواقف الملتبسة من قبل بعض حلفائه العرب في أوروبا، علماً أن الدعم الانتخابي لقوى اليسار الأوروبي يكاد يكون هزيلاً في الأوساط العربية الأوروبية. يزيد الأمور سوءاً أن البعض يحاجج في سياق رده على الحدث عن داعش بالقول أن داعش رد فعل على ما يحصل في فلسطين!
حتى اليوم يرفض معظم قادة الرأي العام العربي في أوروبا اتخاذ موقف واضح بالتمايز عن داعش، ويكتفون بتكرار الكليشيهات المعتادة عن أن الإرهاب سببه أمريكا، ولكن المشكلة أن تلك الكليشيهات لم تعد كافية مع تصاعد أعداد الجهاديين الأوروبيين الذين يقاتلون في سوريا أو الذين ينتظرون تنفيذ عمليات في أوروبا. كما ان تلك الكليشيهات لم تعد كافية لتغطية أن نسبة كبيرة من جمعيات ومساجد عرب أوروبا أصبحت منصات تجنيد شبه علنية. ما يثير الأسف في كل ذلك أن أجيالاً من عرب أوروبا قضت عقوداً وهي تنحت في الصخر في مواجهة مسلمات أسمنتية وفي مواجهة آلة إعلامية مؤيدة بشكل أعمى لـ"إسرائيل"، ونجحت عبر تضحيات وجهود تراكمية في تغيير ذلك وقلب الموازين، ليصبح كل ذلك مهدداً بسبب الجنون الداعشي الذي يستشري عبر كل أماكن التواجد العربي في العالم.
علاء الفزاع: كاتب أردني مقيم في السويد.