خيبة بالويبة
إنها مقولة مصرية شعبية قديمة قدم خيبات الأمل لهذه الأمة التي يشكل ماضيها ظل حاضرها وخيال مستقبلها المنشود الذي يطمح عقلاؤها أن يبلغ في قمّته ومنتهاه ما كان عليه الحال منذ أكثر من 13 قرناً من الزمان المنصرم.
حينما وقفت في طابور ختم جوازات السفر في مطار جون كندي في نيويورك منذ ثلاثة أيام، أوقفتني إحدى موظفات المطار وهي من أصول أفريقية كما تدل لهجتها وقالت لشاب يقف إلى جانبي: “تقدّم أنت لأنك مواطن”، فصاح الشاب بها: “لا.. لا... أرجوكِ لا أريد أن أتقدم..”، ثم تمتم مستهجناً: “مواطن... قال مواطن..”.
نأتي إلى بلادهم وقد أراق فيها من سفهاء أبناء أمتنا دماء الأبرياء بدل المرة مرات وجندوا من سفهاء السفهاء ثلةً من الجاحدين ناكري الجميل الذين حملوا جنسية هذه البلاد وأقسموا قسم الولاء لها لينقلبوا أعداءً ومصاصي دماء يستعذبون نهش لحم الأطفال والمدنيين العزل الأبرياء الذين أمنوا جانب من ولدوا وعاشوا معهم، إذ لم يدر في خلد من يذهب لحفل موسيقي أو متحف أو مجمع تجاري... أن بين ظهرانيه عدو له يتربص به ليقتله غيلةً وخسة.
ذهبنا لزيارة تمثال الحرية الضاربة قدماه في الأرض والناظر إلى بعيد إلى ما وراء المحيط مرحّباً بكل قادم جديد لفظه وطنه بقساوة ظروفه واستبداد حكامه وفساد حكوماته، وفي طريقنا للصعود إلى القارب الذي سينقلنا إلى جزيرة الحرية حيث يسكن التمثال، أدركت كم نحن قساة ومتبجحين، فقد وضع في كل مكان نقطة تفتيش وأجهزة كشف عن المعادن وكأننا في مطار نتأهب لصعود الطائرة، همست صديقتي في أذني: “كل هذا بسببنا؟”، وكان في سؤالها الجواب المر: “نعم، كل هذا بسببنا”.
الطريف أن أبناء أمتنا يعرفون حقوقهم جيدا فإذا تعرض أحدهم لإهانة عرقية أو دينية أو حتى نظرة ازدراء، فإنه يسارع إلى ساحات القضاء ليطالب بتعويض عن مشاعره التي تأذت بسبب السلوك التمييزي، ولو فكّر قليلاً مثل هذا الشخص بمدى تسامح هذه الأمم معنا وكيف أنهالا تزال تفتح أبوابها للعرب والمسلمين محجبات ومنقبات وغير محجبات... بعد كل ما ألمّ ببلادهم من ضربات غدر؛ لخجل حتى أن ينظر في المرآة.
الذين يستقون على اللاجئين السوريين ويحملونهم جريرة أزمات تعصف ببلادنا منذ عقود حتى قبل ثورات “الربيع العربي”، لا يفكرون كيف أن الأوروبيين والأميركيين يمنحونهم تأشيرات زيارة وهجرة بعد كل ما ألمّ بهم بسبب القاصدين إلى بلادهم بحثاً عن العدالة والإنصاف والحماية والحرية بما في ذلك حرية العقيدة والعبادة.
لا يصف مثقفو بل ولا حتى عامة الشعوب الأوروبية والأميركية من يصلون ويدعون علهم لأنهم “نصارى أو يهود أو علمانيين....” كفاراً، مع أن تلك المساجد التي تنطلق منها تلك الدعوات الغوغائية؛ قد بنيت بأموال من يدعو عليهم مشايخ النفاق والشقاق.
لم تعد نيورك كسابق عهدها مدينةً يمكنك التجوال فيها وضميرك مرتاح ووجدانك صافِ من كل ما قد يعكّر الوجدان، فالإحساس بالعار لا يفارق كل صاحب ضمير في كل مرة تواجه فيها نقاط تفتيش وتنبيش في أماكن الأصل فيها الأمان والاطمئنان والرفاه والراحة مثل ما هو الحال في المتاحف والمسارح والمزارات والأسواق.
ما الذي يجعل الشاب يرفض أن يتقدم في طابور المطار على غيره القادم من منطقة تفرّخ الإرهاب والإرهابيين الذين دمروا برجي التجارة وفجروا أماكن مدنية محضة في بلده وبلاد غيره لا لشيء إلا لأنها “دار كفر” وفقاً للتصنيف العفن للشعوب والدول الذي يتبناه فكر ونهج وأيديولوجية ترى في كل من يتفوق عليها علماً وعملاً “رجساً ونجاسة!!!”.
يأتي العرب بنرجسيتهم “الخازوقية” فيذهلوا بسماحة وتحضر الشعوب الأخرى، فيسارعون لريّ عطش تلك النرجسية الفارغة؛ فيقولون: “يا سلام... أخذوا أخلاقنا وقيمنا، فعلا هنا إسلام دون مسلمين”، قد يرضي هذا القول الخرف النفوس البائسة التي تأبى أن تعترف بقصورها الفكري والقيَمي والحضاري، لكنه لن يغير من حقيقة أن هذه الشعوب لم تسبقنا إذ نحن لم نكن يوما في سياق يمكننا من منافستها أصلاً، لذلك فالصحيح أنها شعوب مضت في طريقها قدماً ونحن لم نبدأ حتى في أبجديات الحبو، لذلك تعرف كل أمة قدرها ولتتحدث منجزاتها عنها، ففي هذا العالم أمم تبني وترتقي بنفسها فيرتقي معها غيرها، وأمم تعيش على أطلال ماضيها الغابر فلا تبرحه ولا تريد لغيرها أن يبرحه، لذلك تجدها تتحرك إلى الأسفل منجذبةً نحو القاع باحثةً عن تراث وتاريخ تمت صناعته من خلال خيال القاصين والرواة فلا مَعلَم ولا شاهد عليه إلا من صنعه ثم قصَّه ثم رواه لغيره ليرويه غيره لغيره مع إضافات أو حذف أو تعديل... دون أن يملك أحد التنقيب أو التمحيص فما وصلنا سيفٌ انسلّ من غمده فسبقه العذل وسهمٌ انبرى من قوسه فلا رادّ له!
الاعتراف بالواقع ونقد الذات أول خطى الإصلاح لمن أراد الصلاح، والإنكار والاستتار والفرار يزيد الطين بِلّة ويزيد فوقة الخيبة خيبة لتصبح فعلاً “خيبة بالويبة”.
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.