خيالات مثيرة حول السيدة الأولى

خيالات مثيرة حول السيدة الأولى

 

أفزع مراهق عربي عائلته بجنوحه إلى إذاعة خيالاته المثيرة الجامحة حول «السيدة الأولى» في بلاده؛ ولم يثنه عن مواصلة ذلك أن أقرانه المراهقين في بلدته سخروا منه، ورأوا فيه عتهاً غير معهود لأنه اختار لعواطفه امرأة فقيرة في تعابير وجهها، وفي صفاتها الجسدية والإنسانية، محدودة في الأفكار التي يمكن أن تثيرها.

 

المفاجأة، أن هذا الفتى المراهق، صاحب الخيالات الجامحة، التي جعلت أهله وذويه يتطيرون منه، لم يتأذ كما توقع الجميع من حوله؛ بل وجدوا أنفسهم يراقبون بحيرة كيف حصل صاحب «الخيالات المحرمة» على مقعد دراسي في الجامعة الأشهر في بلاده، مع منحة حكومية شاملة، رغم أن نتائجه العامة لم تؤهله إلى ذلك.

 

وفي سياق الأحداث المفاجئة التي أحاطت بهذه الواقعة وتأثيرات الخيالات المثيرة الجامحة، أصبح ها الفتى فجأة زعيم المنظمة الشبابية، التي أنشأتها «مؤسسسات» السيدة الأولى في بلاده، لمواجهة هياكل تنظيمية مماثلة تقع تحت تأثير قوى معارضة في البلاد. وتحوّل على ذات النحو المفاجئ من خيالاته المثيرة حول «السيدة الأولى» إلى تقديسات تبجيلية توجب «أم الشعب» و«راعية الشباب».

 

طبعاً، جاءت الفوضى العربية، التي انطلقت قبل خمس سنوات، فأضاعت كل الأسئلة «المثيرة» حول قصة انتقال فتى عربي من مرحلة المراهقة بكل ما فيها من «خيالات مثيرة» إلى «زعيم شبابي حكومي»، من دون أن يتحول عن تمركزه على فكرة «السيدة الأولى».

 

فكرة «السيدة الأولى» مستجدة عربياً وعالمياً، لم تظهر زوجة عبد الناصر، ولم تؤد دوراً عاماً. وزوجة حافظ الأسد عرفها الناس في عهد ابنها المضطرب، الذي فيه الدعاية الإعلامية جزء أصيل من الحرب الشاملة، بينما العلماني العربي الصريح، المتطرف في مناصرته للمرأة، الحبيب بورقيبة، لم يكن في مقعد حكمه متسع لـ«سيدة أولى»..

 

وعلينا في الأصل أن نتذكر أن دور «السيدة الأولى»، في العصر والأنظمة المعاصرة، هو جزء من تنميقات الحملات الانتخابية الأميركية، التي بحكم أنها تجري تاريخياً وفق مفاهيم الجمهوريين المحافظين، تحرص في هوس مفهوم على التأكيد الكاذب على مفهوم «الأسرة» باعتباره قيمة أساسية في الحياة الأميركية، التي يحكمها في الواقع نوع آخر من «الأسر» الفادحة. وتدليلاً على ذلك، وفي مفاجأة لأنصار اقتصاد السوق الحر، والفردانية الأميركية، يمكننا أن ندعو إلى مراجعة الإحصاءات الموثقة، التي تقول إن نحو 90% من الشركات والمؤسسات التجارية والصناعية والخدماتية في الولايات المتحدة هي شركات عائلية، وأن نسبة العائلات المالكة لا تتجاوز 1%!

 

وهذا واحد من تناقضات الرأسمالية التي تؤكد على حرية السوق والنزعة الفردانية الأنانية، مقابل رأسماليين أصابهم رأس المال بعقدة التوريث، ومحاولة إنتاج صيغ توريثية تضمن انتقال الثروة في السلالة. وهذه العقدة التوريثية تجعل من الصعب التخلي عن مبدأ التوريث السياسي، الذي يأخذ شكل العائلات الحاكمة في أنظمة تتمسك بالأبوية، وفي العالم الحديث تسويق بيوت سياسية، ولـ«السيدة الأولى» هنا موقع ومكان.

 

وهنا، في الترجمة العربية لفكرة «السيدة الأولى»، يمكن للمرء أن يبدأ من جيهان السادات، ليفهم الظاهرة في مكانها ومعناها العربي، وعلينا أن نتذكر أن مدام جيهان إبنة امرأة انجليزية، وعائلة متوسطة محتمية بسفارة الانتداب البريطاني على مصر، حينها، وتعرفت على السادات في فترة كانت "السفارة" اهتدت بفضل العلافة التي أقامتها مع مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا إلى تنظيم الضباط الأحرار السري، الذي بدأ أعند أعضائه حياته التنظيمية معهم، واختلف معهم سياسياً، قبل أن تتبلور لديه أفكار اجتماعية مناقضة، جعلت من جمال عبد الناصر عدواً لكل من يهرب من العدالة الاجتماعية، داعياً إلى العدالة الدينية، مهما كان دينه!

 

طبعاً، لا يتذكر أحد أن ذروة هوس جيهان السادات بدور «السيدة الأولى» تصاعد مع بداية تفاهمات «كامب ديفيد»، التي أنتجت معاهدة «السلام» الإسرائيلية المصرية؛ إذ كان الانقلاب على سياسة الحرب الناصرية وعلى عبد الناصر من خلال المفاوضات المباشرة ومعاهدة السلام، يتطلب انقلاباً موازياً على وضع زوجة عبد الناصر ودورها الأسري المحصور بالعائلة وعدم الظهور.

 

في ذلك الزمان، لم يكن عبد الناصر فريداً من نوعه في هذا. كان هذا حال معظم حكام العالم. وقبله بسنوات واجه الزعيم السوفيتي ستالين معضلة عائلية قادت مع اندفاعة دبلوماسية إسرائيلية إلى انتحار زوجته. وعانى الزعيم الصيني ماو من عجزه التام في التعامل مع حياته الخاصة، وبرغم هذين الفشلين بقيت السلطة بعيدة عن الحياة الخاصة. وهذا، يا للغرابة، استلهام من الحياة السياسية الطبيعية في أوروبا.

 

ويتوجب التذكر أن العرب، الذين حاولوا تفسير واقعهم المعاصر بحكاية هارون الرشيد وزوجته السيدة زبيدة، باعتبارها واحدة من حالات «السيدة الأولى»، يجب أن ينتبهوا للازمة «السيدة» زبيدة، وإلى نفوذ التشيع بفضل أصله العربي في الحياة والشرعية السياسية في ذلك. وهذه الفكرة لا تكتمل إلا بالانتباه إلى أن دمشق التي حققت كينونتها بالصراع مع أصل التشيع العربي وأنصارة «الخرسانييين»، في العراق وبلدان الفتوحات، خارج الجزيرة العربية وشرق المتوسط، تعيش منذ أكثر من ثلاثين سنة أطول تحالف فعال ومؤثر في المنطقة.

 

قصة «هارون وزبيدة»، لمن يعرفها، تؤشر على زوجة أخرى، أو عشيقات، أو جوار محظيات. ولليوم لا تهدأ ظنون المؤرخين تجاه الرفض القاطع من أمير المؤمنين هارون الرشيد لـ«ابنه محمد» وأمه، وعلاقته بالسيدة زبيدة. ولا تطمئن قلوبهم للقلق المتبادل الذي عاشته السيدة وعاشه الخليفة، إزاء سؤال العلاقات النسائية.

 

وفي عودة إلى الزمن المعاصر، بعد جيهان السادات جاءت سوزان مبارك وعززت ظاهرة «السيدات الأوائل»، ونحت فيها منحى أشد تشويهاً ومهانة، لآن الظاهرة انحرفت من «المعلمة الكبيرة» إلى حالات مشوهة، فوق تشوه الأصل الأميركي. وأسوأ ما في الأمر، أن ظاهرة «السيدة الأولى» في العالم العربي، جنحت إلى اعتماد أسلوب الاغتصاب السياسي لإيجاد مساحة تتناسب مع خيالات السلطوية، وأشد مظاهرها إعلاماً وبهرجة قمة قرينات القادة العرب التي عقدت في الفترة من 12 الى 14 تشرين الثاني عام 2000، برعاية قرينة الرئيس المصري سوزان مبارك. وترأس الأمين العام للجامعة العربية، حينها، عصمت عبد المجيد، اجتماعا تحضيرياً لها، لم ينس أن يعلن خلاله بفخر -لا أعرف مصدره بالضبط- أن تلك القمة هي الأولى من نوعها على المستوى العربي. وفاته في فخره أن يعرف أن «قمته وقمتهن» لا سابق لها في تاريخ وحاضر البشرية إلى اليوم!

 

والمذهل في الأمر أن جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) والاتحاد البرلماني العربي، ساهموا في تمويل القمة والتحضير لها. ما يشير إلى  أن المال الأممي ومال العمل العربي المشترك بات يصرف على النزوات الشخصية لسكان البيوت الحاكمة.

 

من المهم أن نتذكر أن تصاعد موضة السيدة الأولى بداية من قمة التقدم الاقتصادي للنساء في المناطق الريفية، مطلع التسعينات، الذي استضافته مدينة جنيف بمبادرة من ست سيدات يحملن لقب السيدة الأولى، وكانت سوزان مبارك إحداهن، ومن هناك كان بداية التأريخ لمحاولة بعض النسوة لعب دور سياسي دولي. ثم البراغماتية الصينية التي تعادل الحماقة حينما جهدت في خلق ظاهرة «السيدة الأولى» جلباً للاهتمام العالمي في مؤتمر بكين منتصف التسعينات.

 

الحديث لا ينتهي. ولكني أعتقد أن خيالات صاحبنا المراهق لم تكن في محلها: كان يجب أن تذهب باتجاه «خيالات مثيرة» حول دول!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك