خلط الأمور في انتقاد مسلسل "جن"
في خضم الحملة المسعورة ضد مسلسل "جن" التلفزيوني الذي يبث على المحطة المشفرة "نتفلكس" بدأ واضحا خلط غريب وغير مبرر للأوراق.
فدخل النقد الفني في حملة حماية الوطن من تغول الأفكار الغريبة على مجتمعنا للمطالبة بتدخل حكومي وديني لمحاولة محاسبة الهيئة الملكية والتحريض والتنمر على طاقم المسلسل، وطبعا دخل الخبير وغير الخبير في التهجم والتحريض ووصل الى مراحل مرتفعة من التنمر والرفض.
إن أي عمل فني يحتاج إلى رؤية شمولية ودراسة متأنية بعيدة عن الفزعات العاطفية. ومن الضروري ان نكون صادقين مع أنفسنا ولا نبقي رؤوسنا في الرمل والاعتراف باننا لا نعلم ما يجري في عالم شبابنا.
بناء على نوعية التعليقات يبدو واضحاً أن غالبية من قام بالتهجم على المسلسل عبر مواقع التواصل الاجتماعي لا يملك اشتراكاً في الخدمة المدفوعة مسبقاً ولذلك من السهل التنبؤ أن معظم من شارك في الهجوم لم يشاهد المسلسل، ولكن ذلك لم يقلل من الهجوم الكاسح والشيطنة غير المبررة للبرنامج الترفيهي الدرامي والموجه لفئة الشباب وهي الفئة التي أصبحت الغالبية من سكان الأردن والمنطقة العربية.
كون المسلسل يبث على خدمة عالمية مغلقة يعني أن تهمة الضرر العام غير واردة لذلك لا حاجة لهيئة الاعلام والمدعي العام والمفتي والبرلمان بالتدخل.
فمن المنطق أن تقوم الجهات الرقابية بمتابعة ومحاسبة ما يبث على المحطات الأردنية كانت رسمية او خاصة من خلال هيئة الإعلام والتي وضعت شروط متعلقة بالآداب والتراث والعادات مقابل حصول تلك المحطات بالترخيص للبث. فهناك مسؤولية على القائمين على الإعلام وعلى الهيئة لضمان الحد الأدنى من الشروط الأخلاقية والوطنية في كل ما يبث.
ولكن خدمة عالمية تبث لعدد محدد من المواطنين الذين يدفعون اشتراك للحصول على تلك الخدمة يضع الموضع في خانة مختلفة ويقلل من الضرر- ان وجد- في التأثير على المجتمع بكامله.
فعدد المشتركين بخدمة نتفلكس في الأردن والذي يقيم فيها نحو عشر ملاين انسان قد لا يتجاوز عدة الالاف ولو وصل المشتركين الى مئة الف فان ذلك لان يتعدى نسبة 1% من السكان ولذلك القول ان المسلسل يفسد المجتمع امراً مبالغ فيه.
وإذا أخرجنا موضوع التأثير المجتمعي على الوطن بكامله فيأتي الموضوع الآخر وهو سمعة الأردن فيما يخص برنامج تم تصويره في المملكة ويشمل ممثلين وفريق فني أردني. وهنا يجب أن نكون دقيقين ومتوازنين في النقاش مع ضرورة أن يتم التحليل من قبل الخبراء والابتعاد عن الغوغائية في النقد. صحيح ان المسلسل يعرض في كافة أنحاء العالم (العربي وغير العربي) وصحيح أن بعض أهم أحداث المسلسل وخاصة الحلقة الأولي تدور في أهم المواقع الأثرية وهو رائعة البتراء وفي تقييم البرنامج يجب أن يتم التوازن بين الفائدة والضرر.
فمن ناحية يوفر المسلسل للمشاهد العالمي الاستمتاع بمشاهد خلابة تم تصويرها بصورة رائعة للبتراء وكافة جوانبه فرغم أن الخزنة تحصل على نسبة كبيرة من المشاهد إلا أن القائمين على المشروع قاموا بتصوير العديد من المناطق الاثرية الهامة في البتراء.
يعني ذلك أن من شارك في إنتاج المسلسل ساهم في توفير دعاية مهمة للأردن وللمواقع السياحية الاردنية.
طبعاً يجب أن يكون هناك توازن بين تسويق الأردن سياحيا وكيف يتم ذلك. فمن المعروف انه حتى يستطيع أي عمل فني ان ينافس عالمياً هناك متطلبات فنية يعرفها الأردني وغير الأردني. فعلى سبيل المثال لا الحصر فان غالبية مشاهدي مسلسلات نتفلكس او غيرها من الأفلام العالمية تشمل فيما تشمل لقطات تقبيل وهو الأمر الذي يشاهده الأردنيون بدون أي مشكلة في الأفلام الأجنبية ولكن المصيبة حدثت بسبب قبلة لممثلين أردنيين!
فالتحدي للجهات المحلية مثل هيئة الأفلام او غيرها هو إيجاد ذلك التوازن بين ما هو مطلوب عالميا وما هو مقبول محليا. وللحقيقة فإن ما كان ينتقده العديد من المهاجمين بل غالبية الانتقادات كانت حول تأثير المسلسل محلياً.
الانتقاد الاخر جاء حول ركاكة السيناريو وضعفه وهو أمر فني خاص يتطلب من المختصين الرد عليه. وفعلا قامت المخرجة والكاتبة المسرحية المعروفة سمر دودين بالتعليق على المسلسل بقولها: "جن" مغامرة فنية فيها الكثير من الإشكاليات الجمالية وبالذات في النص الا انها تجاوزت سقوف كثيرة وعبرت عن واقع متخيل بشكل جدي وقوي ...
ويبقى السؤال الذي لم يجيب عليه أحد ما هو رأي الشباب والذي يتسارع الكل بالحديث نيابة عنهم. فهذا عز الدين الناطور شاب اعلامي علق على الموضوع بالقول "آخر ما نحتاجه هو منح "السلطة" مزيداً من الحجج للتضيّق على الحريات والفضاءات العامة، وخاصة بالأساليب العرفية. "العادات والتقاليد"، "الذوق العام" هي حجج وأنا إنسان كامل الإرادة ولست محتاجاً لمن يساعدني بتحديد ماذا أحب وماذا أكره."
من الواضح إذن أن المسلسل محصور للمشتركين ولا ضرر على المجتمع الأردني بذلك كما من المؤكد أن الفائدة من مسلسل عالمي تم تصويره في الأردن يتجاوز بكثير الأمور التي أزعجت البعض وفيما يخص النقد الفني وراي الشباب فلا يوجد مبرر لتلك الحملة الشعواء.
وإذ نقر أن دور المؤسسات العامة مثل الهيئة الملكية للأفلام ان تجذب السينما العالمية للأردن ودور هيئات مثل هيئة البتراء السياحية ترويج الأماكن الاثرية عالمياً فيجب علينا التركيز على مبدأ التوازن.
فهل تصوير وبث مسلسل "جن" مفيد ام مضر للأردن. علينا الانتظار لذلك ولكن من الواضح أننا مضطرين لتغيير في رؤيتنا للأمور وعلينا الخروج من منطق الرياء والنفاق المكشوف والذي يقبل بمشاهدة الأفلام العالمية والمشاهد الايحائية والألفاظ السوقية فيها ونرفض ذلك عندما يكون الابطال أردنيون ومواقع التصوير في الأردن.
فكما قالت الكاتبة سمر دودين على صفحتها على فيسبوك "لا وصاية على أحد في الدولة المدنية سوى سيادة القانون وعندما يتم استخدام أدوات السيادة للتحريض ضد عمل فني يخرج للنور لأول مرة بفريق أردني عربي ويتناول حياة فئة من شبابنا وشاباتنا في دراما متخيلة تصبح القضية من نوع آخر. أما درس الوصاية والأخلاق فهو لعبة من يريد ان يزج الدين والعادات في كل شؤون الحياة بدلا من الاحتفال بطاقاتنا الشبابية الإبداعية او بدلا من تقديم النقد الوازن وبسبل سلمية عقلانية وبدلا من احترام فضاء الحريات.".