مساهمة في نقاش أردني حول “جن”
لم تلق الحملة الهائلة التي تعرض لها الممثلون الأردنيون في مسلسل “جن” من يواجهها. الحملة التي قادها إسلاميون ومحافظون، وبعض “حداثويين” ساهموا في جلد الممثلين في سياق نقدهم الفني للعمل، لم تجد من يقف في وجهها.
لا شيء سوى تغريدة يتيمة للأمير علي شقيق الملك، وفيديو اعتبر جريئاً لزيد أبو عودة وبعض التغريدات والمنشورات على “تويتر” و”فايسبوك”، تعرض أصحابها بدورهم لما لا يحصى من الشتائم.
والحال أن عمان بأهلها وعشائرها ولاجئيها هبت هبة الرجل الواحد لمواجهة المحنة، والأخيرة كانت قبلة في مسلسل على “نتفليكس”. وفي هذه الحال تصبح القيمة الفنية للعمل هامشية أمام الدلالات التي تحملها الحملة، والأهم أمام انكفاء نخب أردنية حديثة، لم تشعر بأنها معنية بالدفاع عن عمل استهدف ليس بسبب رداءة مضمونه الفني، إنما بسبب مشاهد يُفترض أن تجد من يدافع عن حق أصحاب العمل في اختيارها لعملهم.
من غير المستغرب طبعاً أن يتولى إسلاميون قيادة الحملة على العمل وعلى المشاركين فيه. كما أنه من غير المستغرب أن ينضم إليهم خصومهم من المحافظين، ذاك أن التنافس بين الجماعتين لا ينطوي على هم تحديثي، بل على العكس من ذلك، فهما تدعيان تمثيل قيم الجماعة الأهلية وتتمسكان بمعاييرها. لكن عمان، للناظر إليها من خارجها، يُفترض أن تكون قد أفرزت صوتاً ثالثاً، ومن غير المتوقع أن يكون قوياً، إلا أنه موجود، ويمكن رصده في الكثير من أوجه حياة المدينة ومن صورها وأنماط عيشها. هذا الصوت الذي له ما يوازيه بوجوده وبضعفه في معظم مدننا، وإن على نحو متفاوت، هو ما أسعف فناناً مثل زياد عيتاني في بيروت، استهدف حريته نظام أمني فاسد، وهو أيضاً حصن شابات في غزة قررن أن يتحدين سلطة “حماس”، فاحتضنتهن مؤسسات حقوقية نخبوية تملك قدراً من التأثير.
ما حصل في عمان مذهل فعلاً، فنحن لا نتحدث عن سلطة حاكمة جائرة، ولا عن قوانين مجحفة، إنما عن مواجهة مع المجتمع العميق، وهذه المواجهة ليست دموية، ويمكن تحديد إطار قانوني لها. الشجاعة المطلوبة في هذه الحال لا تعرض أصحابها لما يتعرض له ناشط مصري شجاع مثلاً في مواجهة النظام العسكري في بلده، أو ناشط حقوقي فلسطيني في غزة. وهنا ربما يصح فتح نقاش مع أصدقاء أردنيين اقتصر ذهولهم من الحملة على ممثلي “جن”، على محادثات هاتفية وعلى ذعر أعقب اكتشافهم قوة المحافظين ومدى تأثيرهم، وفي أحسن الأحوال اقتصر على منشورات مقتضبة على “السوشيل ميديا”. في وقت بلغت الحملة من القوة حداً اضطر بعض الممثلين على أثره لمغادرة الأردن، فيما صدرت بيانات عن “أمهات أردنيات” عبرن فيه عن مخاوفهن على أولادهن جراء ما يحمله “جن” من “قيم رذيلة”.
هذه الحقيقة تدفع إلى التفكير بتلك النخب التي تشبهنا في عمان، وما سر هذا الانكفاء عن مواجهة لا تبدو مصيرية، ويمكن خوضها بأدوات متوفرة في بلد تتيح سقوفه السياسية قدراً من النقاش، والدليل على ذلك تغريدة شقيق الملك وقبلها سماح السلطات في الأردن بتصوير حلقات المسلسل.
وهنا يلوح مشهد مختلف يتمثل بأن “حداثويي” عمان منقسمون بين يساريين متماهين مع القواعد المحافظة، ولا يشعرون بأن المواجهة معها الآن ضرورية، في ظل مواجهة أكبر مع “أعداء الخارج”، وبين نخب اقتصادية من الطبقة العليا أو المتوسطة العليا، تشعر بأن أي مواجهة مع القوى التقليدية ستُفقدها امتيازاتها، وتفضل العيش في جزر منفصلة عن المدينة وأهلها. وعلى هذا النحو، تُركت المدينة من دون حيز عام يتنازع فيه أهلها أفكارهم وقناعاتهم وأنماط عيشهم. الحداثويون تركوا المدينة للإسلاميين والمحافظين، والأخيرون أفسحوا لمواطنيهم الأغنياء بعض المساحات لينعزلوا فيها، وهذا ما ولد سكينة لا تمت بصلة إلى ضجيج المدن ولا إلى مفارقاتها.
الدولة في الأردن أقامت تماماً في المسافة بين قواها التقليدية وبين نخبها الاقتصادية “الحديثة”، ومثلت جسراً لهذا القبول المتبادل وكانت راعية له. وهذا ما جعل مهمة رأب الصدع صعبة. الفرز الحاد بين الشرائح الاجتماعية لم يجد من يبحث له عن علاج. الأغنياء لهم أردنهم والفقراء أيضاً، وبينهما طبقة متوسطة ضعيفة التأثير ومترنحة في أوضاع اقتصادية متقلبة، وللإسلاميين في هذه الشريحة حضور ونفوذ.
نحن هنا نتحدث عن ممثلين استهدفت حريتهم في العيش في بلدهم. وغادروا مدينتهم مكرهين. ومن استهدفهم ليس نظاماً عسكرياً جائراً. بل هو نظام اجتماعي كان أهلهم جزءاً من بنيته. وهؤلاء لم يجدوا من يدافع عن حقهم وعن حريتهم. لم يحصل نقاش قانوني مثلاً حول ما إذا كان الممثلون خرقوا القانون، وهم ربما فعلوا، لكن حينها سيجد النقاش مسرحاً آخر للخلاف معهم. والمدافعون عن حق العمل الفني في أن يُنتج وفي أن يُعرض، وجدوا أنفسهم مضطرين لتقديم قناعتهم برداءته الفنية على قناعتهم بهذا الحق، فبدت مساهمتهم جزءاً من حفلة الجلد التي تعرض لها الممثلون.
تتسع عمان لهذا النقاش ولهذه المواجهة، لكن أحد أطراف النقاش قرر الانكفاء مفسحاً المجال لأصحاب الصوت الأقوى في مجتمعاتنا، من اسلاميين ومحافظين. الدولة نفسها قررت الانسحاب من المواجهة، على رغم أنها معنية برعاية النقاش، وبتقديم الحماية لممثلين لم يتجاوزوا القانون.