حين تنتصر رواية المهزومين

حين تنتصر رواية المهزومين
الرابط المختصر

أحيا الشعب الأرمني يوم الجمعة الماضي الذكرى المائة لما تُدعى "الإبادة الجماعية" التي تعرض لها إبان الإمبراطورية العثمانية. أحياها في عاصمة أرمينيا "يريفان" عند النصب التذكاري المهيب، وكذلك في أكثر من بلد في العالم، وعبّر عن مقاومته للنسيان من خلال شعائر الصلوات، وإضاءة الشموع، وإقامة حفلات في كبرى الصالات لأساتذة من موسيقييه العالميين استعرضوا فيها تراث شعبهم في هذا الفن الراقي. (أوليست الموسيقى أقرب لأن تكون صلاة كونها تنبع من الأرواح لتصبّ في الأرواح؟)

 

وقعت تلك الإبادة عام 1915، وما زالت الأجيال اللاحقة للضحايا المليون ونصف تستعيد ذكراها الفاجعة كل سنة، وبكافة الوسائل. هم لم ينسوا، لكنهم، بالمقابل، لم يدعوا للعالم فرصة أن ينسى أو يتناسى. فالعالم المُقسَّم، الغارق في مآسي بلدانه وشعوبها، عُرضةً لنسيان ما ليس خاصاً به وبيومه الراهن، فما بالنا بشعبٍ أخرس يتكتم على إبادةٍ لحقت به قبل مائة سنة!

 

ماذا يريد الشعب الأرمني، الآن، الواقف على أرضه، والحائر في هويته المغتصبة داخل تركيا، والمنتشر في أصقاع الأرض؟

 

ما يريده الآن هو ما برح يطالب به منذ عقود وعقود: اعتراف ورثة مرتكبي المجازر بجريمة أسلافهم، والاعتذار العَلَني عنها. وهذا الأمر، في حالة تحققه، فإنّه يتضمن جملة معانٍ أهمها إطفاء عطش أبناء وأحفاد الضحايا للعدالة. فما دامت إحالة مرتكبي المجزرة المباشرين للمحاكمة مستحيلة بعد مرور مائة سنة؛ فعلى الأقلّ اعتراف ورثتهم بها. غير أنّ الورثة يرفضون. الورثة يعاندون، ويكابرون، وينفون بكل صلافة، ويتصدى رئيس دولتهم الحالي "أردوغان" لمطالب الشعب الأرمني، وللعالم في الوقت نفسه، متسلحاً بحجة أنّ على بقية الدول التي ألحقت الظلم بغيرها من الشعوب أن تعتذر هي أيضاً!

 

جزء من هذه الحجة صحيح؛ إذ ليست الامبراطورية العثمانية الوحيدة التي أعملت سطوتها في مصائر سواها من الشعوب وبطشت بها حد الإبادة أحياناً. فثمة دول كبرى ما زالت حتى اليوم تتنكر وتنكر جرائم حروبها- كفرنسا في الجزائر، والولايات المتحدة في فيتنام، ثم في العراق، دون أن ننسى جرائم الكيان الصهيوني في فلسطين المستمرة حتى اللحظة. لكن لحجة "أردوغان" جزءها الآخر المتمثّل في المراهنة على أن تاريخ بلده الرسمي هو المعتمَد كَسَنَد وحيد. أي أنه يراهن على إدامة حضور التاريخ المكتوب من القوي المنتصر، استناداً إلى كونه "قانون تدوين التاريخ!"

 

فالتاريخ رواية المنتصرين!

ورواية المنتصرين، كما نعرف ونعي جيداً، رواية تعوزها المصداقية وتعتريها الشبهات.

 

لكنّ "المهزومين"، هذه المرّة، يأبون التسليم بهذا القانون الأصمّ الظالم، وها هم يطرحون على العالم نسختهم الخاصة بالتاريخ: يطرحون رواية الضحايا المهزومين لينتصروا على جلّاديهم وروايتهم.. ولو بعد حين. وإنها لمفارقة نادرة من مفارقات التاريخ المتعدد في إفاداته الروائية لواقعةٍ واحدة. مفارقة تتحدى المنتصر الغاشم، وتكسر القانون الأعمى، وتُسَجِّل امتيازها بلغة لم تنقرض لشعبٍ رفض الإبادة وتعلّم كيف يقاوم في شتاته المديد. ولعلّها المرّة الأولى التي نعيش فيها إعادة كتابة التاريخ بحسب رؤية الضعيف، ونتابع مجريات محاكمة لم ييئس أصحاب القضية المرفوعة من ملاحقتها، رغم انقضاء قرن كامل من الانتظار على أبواب محكمة نصف موصدة في وجوههم. تنفتح، أو تنغلق، أو تؤجَّل وفقاً لمصالح "قُضاتها"، والقائمين على "سيادة القانون العالمي"، والأوقات المناسبة لإبرام "الصفقات" بين الدول!

 

دون لجوء تركيا إلى إجراء عمليات المراجعة لتاريخها ووثائقه، بشفافية وصدق وعَلانية، والإقرار بما حدث فعلاً قبل مائة سنة، سيبقى مطلب الضحايا معلقاً فوق رأسها مائة سنة أخرى. لن تغسل بمكابرتها دماء مليون ونصف إنسان (نساء حوامل، وأطفال، ورجال، وعجائز) تتلطخ بها صفحات تاريخها. أو تحذف بإنكارها الرجاءَ بسماع كلمة اعتذار واحدة، فتستريح تلك الأرواح أخيراً، بعد رحلة في الموت والفناء عمرها قرن بالتمام.

 

ربما، من نقطة الأرواح هذه، يمكن لنا أن نفهم لماذا تتصاعد الموسيقى عالياً كلّما أحيا الشعب الأرمني بها ذكرى الإبادة. فالأرواح تُخاطَب بمادتها، والموسيقى روح تخاطب أرواحاً وتناجيها، كما أنها لا تَفنى. فأين المفرّ لدولةٍ تطاردها موسيقى الأرواح؟ وإلى أي مدى ستظل تركض للأمام هاربةً من كلمة حق وضمير واجبة؟ ومتى ستضطر لسحب نسخة روايتها المهزومة من الذاكرة اليقظة؟

لقراءة المقال باللغة الانجليزية الرجاء

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.