حمقى التاريخ وغبار المتاحف
ثمّة فرق بين أن نعيد النظر في التاريخ ونُعمل سلطة العقل في نقده، وتفكيكه، ومراجعة الكثير من مراجعه الواهية في أسانيدها للوصول إلى نقطة "تَعَقّلٍ متوازن" يساعدنا على فهم حاضرنا من جهة، وأن نلغيه فنهدم ونحطّم شواهده المادية الدالّة عليه بلا لبس أو حاجة للتأويل من جهة مقابلة. ففي الحالة الأولى ننتصر لآمال بناء مستقبلٍ قادر على حمل أحلامنا بالجميل والفاضل والأقرب للإنسانية المتخلية عن وحشيتها، أما في الحالة الثانية فإننا نكون قد حكمنا على أجيالنا القادمة بالخروج من التاريخ ككل؛ إذ نجتثّ الأصول المتبقية القادرة على تقديم شهادتها علينا فندخل، عندئذ، منطقةَ التساؤل المستريب بنا في حاضرنا. في الحالة الأولى نكتب بوعي ناقد فنؤكدُ معنانا في الكون، أما في الحالة الثانية فإننا نمحي المكتوب ونمزّق الكتاب ونرمي بأوراقه في رياحٍ ستذروها وتذرينا معاً ولا تُبقي على شيء مِنّا.
أنتَ بلا ماضٍ موثوق، إذن: أنتَ في حاضرٍ ملتبس، إذن: أنتَ مفتقرٌ لمستقبل مأمون أو مضمون، إذن: أنتَ مجرد خطأ فاحش يمكن تصحيحه في الوقت المناسب: في لحظة تدوين الكتاب الذي لا تستطيع تمزيقه لأنكَ لن تكون على قيد الوجود.
ما فعلته داعش في الموصل بمجمل جرائمها منذ احتلالها المشبوه: مدينةً من عمر فجر الحضارات، جامعةً لِبَشَرٍ بأديانٍ مختلفة، وأصولٍ متنوعة، ومتحفاً بآثاره العائدة لآلاف السنين، ومكتبة جامعات بمخطوطات وكتب أكثر من نادرة، وكنائس آثارية لن تتكرر، وجوامع ومساجد تاريخية ومراقد وقبور، وأسوار آشورية تشهد على نضج العقل ورُشده؛ ما فعلته داعش في الموصل لا يجوز لنا تفسيره سوى بالحقد الأحمق على التاريخ. داعش ترفض التاريخ كمبدأ، وتوهم نفسها بأنها قادرة على إحلال "تاريخها هي" بَدَلاً عنه بتحطيمها لشواهده المادية الباقية. وهذا في ذاته تفكير أحمق لأناسٍ لم يقرؤوا التاريخ حقاً. ففي التاريخ هنالك وقائع مشابهة، لا بل تكاد تتطابق، تدل على هذه الحماقة المتكررة، والفاشلة في نهاية المطاف؛ إذ زالَ المستبدون الحمقى وبقيت الأنوار تشعُّ رغم جهودهم البائسة بغية إطفائها. أنوارٌ تُضيء الإبداع والإنسان، وتفضح الجهل والوحش بكافة الأسماء، والذرائع، والجنسيات، ولبوسات الديانات الكاذبة.
* هولاكو احتلّ بغداد وأغرق مكتباتها الزاخرة بالعلوم في النهر إلى درجة تلوّن مياهه بالحبر الأسود. لكنّ هولاكو هلك، واستمرت بغداد، رغم نكساتها وإجهاضاتها، ترفدنا بسلالات من العلماء والمبدعين إلى يومنا هذا.
* الإسبان الكاثوليك المنتصرون دخلوا غرناطة العربية وأقاموا أكبر محرقة كتب لكتائب من المبدعين المسلمين واليهود، ظناً منهم أنهم إنما يحذفون تاريخاً يحقدون عليه، ويخشونه أيضاً! غير أنّ ما فعلوه لم يمنع أحفادهم من إعادة الاعتبار لمجمل الحضارة المهزومة عسكرياً، لكنها الباقية ما تزال في شوارع مدن الأندلس من خلال عمارة المساجد، وجماليات القصور بزخارفها العبقرية، وهندسة الحدائق، وتمثالي ابن رشد المسلم وابن ميمون اليهودي.
* النازيون المنتشون بهيمنتهم على الحياة الألمانية وفرضهم لرؤيتهم الواحدية القامعة لأيّ اختلاف، تحامقوا كالإسبان تماماً؛ ففرشوا شوارع برلين بأكداس من الكتب الفكرية والأدبية وأضرموا فيها النيران، من بينها مؤلفات هرمان هيسه على سبيل المثال. غير أنّ النازيّة زالت تاركةً إرثاً من العار، وبقي هرمان هيسه يكتب وتُطبع كتبه، ويُقرأ باحترام وتقدير إلى هذه اللحظة.
الماضي والتاريخ ليسا قابلين للإلغاء أبداً. والذين يرون في أنفسهم وفي رؤاهم بديلاً، لايعون أنّهم إنما يعاندون الحضارة ومنطقها. فالحياة بحضاراتها المتعددة لم تبدأ بهم، والتاريخ كبير ومتسع وفضفاض إلى درجة ذكرهم العابر في إحدى ثناياه، ولكن ليس هنالك من مركزٍ ثابت فيه لأحد. أو بؤرة محددة تحتل قلبه.
داعش لم تخرج في جرائمها عن منطق الحمقى: هولاكو، والإسبان المنتقمون، وهتلر النازي.
داعش لن تفلت من مصائر هؤلاء الحمقى أيضاً: سوف تزول، ولن يُذكَر منها وعنها سوى عارها ووحشية أفعالها.
هذا ما سيرد في كتاب التاريخ الذي لن تطوله براثن التمزيق، أو مطارق الهدم والتحطيم.
كلمة ليست أخيرة: في المتاحف آثارٌ قائمة بأطوالٍ وأحجام مختلفة. صغيرة ومتوسطة وعملاقة، وجميعها عرضةً للملاحظة والتعيين المباشرين. وفي المتاحف كذلك غبارٌ يتراكم لا يُلْحَظ، يسكن في الزوايا عادةً، وعادةً ما يُكْنَس عند التنظيف.
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.