"حق التنظيم": إنكار حكومي لضرورة اجتماعية
عبّرت الحراكات العمالية المكثفة، التي شهدها الأردن خلال الأعوام القليلة الماضية، عن تحولات اجتماعية واقتصادية عاشها المجتمع نتيجة تنفيذ جملة من السياسات الاقتصادية ارتكزت على تحرير الاقتصاد من خلال تحرير التجارة الخارجية وتحرير الأسعار والخصخصة وزيادة الضرائب غير المباشرة، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وتنفيذ سياسات مالية تقشفية انعكست بشكل سلبي على قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل لائقة، وتراجع شروط العمل ومستويات الأجور واستمرار معدلات البطالة على ارتفاع، واتساع رقعة الفقراء، التي أدت إلى مزيد من التفاوت الاجتماعي.
ورافق ذلك عدم تطوير تشريعات عمالية تتوافق مع متطلبات وحاجات قطاعات عمالية واسعة، بما يعكس توازنات القوى الاجتماعية المتنامية بشكل مستمر، وينسجم مع التزامات الأردن بالقانون الإنساني الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية ذات العلاقة بحرية التنظيم النقابي. يضاف إلى ذلك انسداد آفاق إصلاح النقابات العمالية القائمة وتصويب أوضاعها، وهو ما أدى إلى حدوث تحولٍ نوعي في الحراك العمالي والنقابي عبّر عن نفسه بكثافة الاحتجاجات العمالية ونشوء منظمات نقابية جديدة.
ولم تتمكن مختلف القيود القانونية، التي تنظم علاقات العمل في القطاعين العام والخاص، من منع القوى الاجتماعية الناشئة من التحرك للدفاع عن مصالحها وتنظيم نفسها، إذ منحت التعديلات الدستورية الجديدة في عام 2011، وقرار المحكمة الدستورية رقم 6 لعام 2013 دفعة قوية لهذه القوى الاجتماعية الناشئة لممارسة حقوقها الدستورية، والمدعومة من مصادقة الأردن على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومبدأ سمو المعاهدات والمواثيق الدولية المصادق عليها على التشريعات المحلية في حال تعارضها.
وهكذا كانت القوى العاملة هي الأكثر حساسية والأكثر معاناة من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، سواء أولئك العاملين في القطاع العام أو في القطاع الخاص، وحسب تقارير تحليلية تناولت الاحتجاجات العمالية، في السنوات الأربع الأخيرة، فإن ما يقارب ثلثي هذه الاحتجاجات جرى تنفيذه من قِبل عاملين في القطاع العام، ما يشير إلى حجم التراجع في أوضاع العاملين في هذا القطاع، وتراجع التوازن في علاقات العمل فيه.
وتنامت في الوقت نفسه حالة عدم التوازن في العلاقة ما بين أطراف علاقات العمل في القطاع الخاص، الذين يشكلون ثلثي العاملين في الأردن، المتمثلة في وزارة العمل والنقابات العمالية المعترف بها (الرسمية) وأصحاب العمل في القطاع الخاص، إذ أن ممثلي العمال من النقابات العمالية كانوا الطرف الأضعف، بسبب التدخلات الحكومية في أعمالها، وغياب الممارسات الديمقراطية الداخلية عنها، مما سبّب غياب فاعليتها، لذلك وقع هذا التغول الكبير على حقوق العاملين بأجر، وانتشرت ظاهرة الانتهاكات والاعتداءات على الحقوق الأساسية في العمل، ولم تستطع وزارة العمل وفريق المفتشين فيها ضمان تمتع العاملين في القطاع الخاص بالحقوق العمالية الأساسية المنصوص عليها في قانون العمل.
دفعت مجمل التحولات الاجتماعية والاقتصادية باتجاه مزيد من الاختناقات في بنية علاقات العمل، ولعِب غياب التنظيم النقابي العمالي المستقل والفعال دوراً أساسياً في الوصول إليها، ففي الوقت الذي سمحت فيه القوانين والقرارات الحكومية بتأسيس منظمات لأصحاب العمل بكامل الحرية، حرمت العاملين من ممارسة هذه الحق، لذلك يوجد في الأردن في الوقت الحالي 17نقابية عمالية فقط، ولم تزد منذ أربعة عقود، بينما يوجد ما يقارب 85 منظمة أصحاب عمل منها غرف تجارية وصناعية ونقابات وجمعيات أصحاب عمل، وتتزايد أعداد هذه المنظمات سنوياً.
أمام هذا الواقع، سعت القوى والحراكات العمالية الجديدة جدياً نحو استخدام حقها الإنساني والدستوري في إنشاء نقابات عمالية مستقلة للدفاع عن مصالح أعضائها وتحسين شروط عملهم وفق أنظمة داخلية ديمقراطية، وهي بذلك خطت خطوات ملموسة لتطوير حركة نقابية عمالية أردنية ديمقراطية ومستقلة وفعالة، إلا أنها تواجه تحديات تتمثل في عدم اعتراف الحكومة بها، الأمر الذي يضع العديد من العقبات أمام سلاسة مسار تطورها نحو استكمال تطوير بنيتها الذاتية بسبب عدم قدرتها على جمع اشتراكات من أعضائها واستئجار مقار لممارسة أعمالها، إلى جانب حرمانها من ممارسة حقها في المفاوضة الجماعية.
*باحث ومدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.