حروب وأدب
أنتجت حرب العراق مع إيران، في ثمانينات القرن الماضي، أدب حرب عراقي، لم يقتصر على ما تشجعه الدولة في سياق حالة التعبئة العامة، وكذلك نصوصاً حرة من السياق الرسمي، بل وتعارضه. والأهم، أن هذه النصوص وتلك، شكلتا رافعة أدبية لحالة ثقافية نشطة، وفعالة.
وفي السبعينات وبداية الثمانينات، شكلت القضية الفلسطينية محوراً هاماً من محاور نشاط أدبي وحراك ثقافي. ومع الوصول إلى الاجتياح الإسرائيلي إلى لبنان، كنا أمام ظاهرة أدبية كبيرة تعاملت مع الحرب في سياقات أكثر إخلاصاً للفكرة الأدبية، والجوهر الثقافي، مما شهدنا في الحالة العراقية خلال الفترة نفسها.
الحروب التي تلت ذلك، والهزات العميقة التي عاشها العالم العربي بعد ذلك، لم تكن أقل وقعاً وهولاً وأثراً من تجربة بيروت والحرب العراقية الإيرانية. لكنها، خلافاً لما هو متوقع، لم تحرك شيئاً في الساكن الأدبي، ولم تنعكس في المشهد الثقافي.
الغريب، أن الحرب نفسها، انعكست بقوة في آداب الأطراف الأخرى في هذه الحروب، وفتحت سياقات جديدة للتعبير عن السياقات الدموية ومخرجاتها. ويمكن هنا تفحص الحالة الأميركية وحجم الكتابات الأدبية التي تتناول تجربة الحرب العراقية، وأسهمت على نحو جوهري في إثراء خزانة الأدب الأمريكي.
وفي محاولة سريعة لرصد الأعمال التي لقيت صدى يمكننا بمجرد متابعة الصحافة االعربية إحصاء الكثير، ومن ذلك مثلاً: «الطيور الصفراء» قصة للكاتب والشاعر الأميركي الذي اشترك في الحرب في العراق، كيفين باورز، و«إعادة انتشار» المجموعة القصصية الموقعة باسم فيل كلاي، الذي خدم أيضا كجندي في حرب العراق، التي فاز عنها بجائزة ووريك المرموقة، التي تنظمها جامعة ووريك البريطانية، كل عامين لعمل باللغة الإنجليزية. وهناك أيضاً رواية «خمسة وخمسة وعشرين» لمايكل بيتري، الكاتب الأميركي الذي خدم هو الآخر في حرب العراق.
وهناك رواية الكاتبة دانا راينهاردت المعنونة بـ«أشياء يعرفها الأخ»، ورواية «باد» لمؤلفها تيم ثارب، و«القلب الأرجواني» لباتريشيا ماكورميك، و«أشباح الحرب» لرايان سميثسون.
وربما تثير القائمة الأميركية أسئلة حول حقيقة هؤلاء الجنود الأميركيين الروائيين، وإن كانوا كتاباً فعلاً، أم جنوداً خالصين اقتحموا عالم الكتابة تحت وقع تجربتهم القاسية، في استجابة لم يستطعها المجتمع الأدبي العربي. أو لجهة أن الكتاب من بين أصحاب قائمة المؤلفات هذه اعتمدوا على قصص حقيقية وواقعية. لكن هذا لا ينقص من الموضوع شيئاً، فالأمر هنا مسألة نقدية تتعلق بأشكال التعبير الأدبي وثقافة مزاوليه.
عموماً، من يكتشف انعكاس هذه الحرب في الأدب الأميركي، يلاحظ غياب التعبير الأدبي العربي عن هذه المأساة، ربما يعتقد أننا كنا المنتصرين في حربنا مع الولايات المتحدة، وأن أميركا خرجت منها مهزومة؛ ولهذا هي تلح على استعادة وتأمل التجربة القاسية، فيما هي مهملة من الجانب العربي.
في الواقع لا علاقة للنصر أو الهزيمة بمحاولة استيعاب وتأمل التجارب القاسية، وربما فعلاً الأمم والمجموعات المهزومة هي أحوج من غيرها إلى ذلك. وهناك أدلة كبيرة على ذلك، أقلها أن الأمة والدولة الروسية المنهارة في أواخر القرن التاسع عشر أنجبت أهم الكتاب الروس، بل أن عيون الإبداع الروسي، مرتبطة بتلك المرحلة. إذ أن الإنهيار نفسه ليس معضلة. المعضلة في الإرادة الجمعية، وهل هي ذهبت إلى هذا الانهيار أم هو كارثة واجهتها رغماً عنها.
الشيء الأساسي الذي حدث معنا هو أن خرج من المعادلة السياسية والثقافية، على حد سواء، قيل عقدين ونيف، واحتلت القوى الدينية من كل نوع مكانه كبديل. وهنا لن تكون التناحرات بين اتجاهات اجتماعية وانحيازات ثقافية، ولكن بين تحزبات مذهبية دينية. ولا يمكن لمجتمع انحدر إلى هذا الدرك أن ينتبه إلى التعبير وتأمّل نفسه، فهو بالضرورة مشغول بالاقتتال الداخلي.
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.