حروب البسوس

حروب البسوس

“لعمري لو أصبحت في دار منقذٍ لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي.. ولكنني أصبحت في دار غربةٍ متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي.. فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل فإنك في قومٍ عن الجار أموات.. ودونك أذوادي فخذها وإنني لراحلة لا تغدروا ببنياتي”. بهذه الأبيات التي أنشدتها البسوس خالة جساس بن مرة حينما قتل جساس كليب بن ربيعة لقيام هذا الأخير بعقر ناقة سعد جار البسوس، اشتعلت حرب حملت اسم البسوس ودامت لحوالي 40 عاماً عند البعض و بضع و20 عاما عند البعض الآخر! وقد أريقت في هذه الحرب التي قامت من أجل ناقة -يقول البعض أنه كان بها جرب- دماء وأزهقت أرواح وهُجّرت قبائل عن أوطانها.

حرب البسوس أو “البتراء” التي سميت بهذا الاسم لأنها انتهت بتشتت القبائل دون أن يعقل فيها دم أو تدفع فيها ديات، هي نموذج على ميل فطري للقتل والتوحش، الأمر الذي قاله الراحل ابن خلدون منذ قرون وهو يصف العرب وطباعهم وصعوبة تعايشهم مع الآخر وحبهم للسلطة والتسلط.

استمرت نزعة القتل والقتال عند العرب لكنها اتخذت أشكالاً ومسميات مختلفة أضفت عليها صفة من المشروعية بل والقداسة في كثير من الأحيان، ويروي التاريخ قصصاً لا يبدو فيها سبب اشتعال الحروب بين العرب المسلمين وغيرهم من العرب غير المسلمين أكثر وجاهةً من عَقر كليب ناقة سعد جار البسوس. فتروي السير مثلاً أن ربط أحد يهود المدينة طرف ثوب امرأة مسلمة بشيء ما بحيث أنها حينما نهضت انكشف ظهرها.. كان سبباً لقيام حرب واشتعالها وإخراج اليهود الذين ربما لم يسمعُ بالحادثة من ديارهم وأموالهم وأولادهم بحسب ما ترويه كتب السير والمغازي.

المتأمل اليوم للنزاعات المشتعلة في المنطقة وبشاعة ما ترتكبه الجماعات الإرهابية المسلحة، لا يحتاج لكبير عناء ليستلهم الأساس الأيديولوجي والتاريخي لهذه النزاعات التي قامت على كلمة أو فقرة أو سطر قرأه "سيكوبات" الجهاديين مستلهمين ما ارتكبه أسلافهم من مجازر بسبب ناقة أو تحرش جنسي أو شائعة تناقلتها الألسن عن احتمال نقض عهد أو معاهدة.

هذا الاستمراء لإراقة الدماء الذي نشاهدih اليوم، هو رجعُ الصدى لتاريخ حافل بالمجازر والمذابح التي ارتُكِبت لأتفه الأسباب وأسخفها. الخطير في هذا الصدد هو كيفية تعاطي مناهجنا التعليمية مع تاريخ المجازر العربية، حيث أن هذه المناهج تقدم المجازر في قالب من الإثارة والتشويق بل والتقديس الذي يساهم المدرّس –المتعصب عادةً- في زيادة منسوب البهارات المستثيرة للمشاعر والعواطف وهو يشرح ويروي تفاصيل تلكم المجازر وأسبابها. لا زلت أذكر كيف كان مدرس التربية الإسلامية منتشياً وهو يقول: “شوف الغيرة على العرض.. شوف الحمية.. ما في كلام ولا مزح.. رفع ثوبها فقطع رأسه مباشرةً ثم كمّل الأشاوس على أهله وعشيرته كلها”.

دراسة التاريخ أمر ضروري ومفيد للبناء على ما صحّ منه وتلافي ما شابه من هفوات وغلطات، لذلك فعلى الجهات المعنية بالتعليم تدريس التاريخ في إطار ينسجم وحقوق الإنسان ومبادئ العدالة والتعايش وقبول الآخر، بحيث تكون القراءة قراءة ناقدة مستنكرة لكل ما مَثَّلَ حرب إبادة أو خرق لمبدأ شخصية العقوبة أو الإقصاء والاستئصال على أساس ديني أو عرقي أو مذهبي... وهذا كله يتطلب أن يتم تجريد غير المقدس عن قداسته التي صنعها أقوام وورثناها عنهم دون تفكر أو تدبر.

إصلاح التعليم يبدأ بتبني المنهج التحليلي العلمي المجرد عن سابق الأحكام والقولبة الموروثة، أما التعبد في محراب سياقات تاريخية منبتّة الصلة عن حاضرنا وواقعنا فنتيجته مزيد ومديد من حروب البسوس البتراء.

 

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.

أضف تعليقك