حركة تجنيد شاملة
السنوات الثلاث الماضية قادت إلى كارثة بيّنة وواضحة: حركة تجنيد شاملة. تم تجيير الثقافة بمجملها للإعلام، وتحويل المثقفين بمجموعهم إلى ميليشيات إعلامية، تعمل لدى مختلف الأطراف الفاعلة..
ومثلما كانت السياسة وضعت يدها على الإعلام، اندفعت لتجنيد الثقافة بمجملها..!
لقد تباطأت في مرحلة ما من بداية القرن الجديد عملية "استيعاب" الإعلاميين والمثقفين في مراتب السلطة ومؤسسات الدولة العليا والسياسية، وحل محلّها التجنيد الأمني للإعلاميين، وتحويل المثقفين إلى الإعلام..
لم نتوقف هنا، وصلنا إلى رجال الدين..
وأصبح هؤلاء شريحة أساسية وسط الإعلاميين، وتم تسخير التلفزيونات والمؤسسات الإعلامية لهم ولبرامجهم، بالتوازي مع الضخ الهائل الذي يؤكد على التوجهات العلمانية، وعلى مواجهة التطرف..
ويبدو أن هذا لم يكن كافياً كذلك..
انتقلنا إلى إعادة تجنيد المتقاعدين العسكريين في الميليشيات الإعلامية والسياسية، بل وفي الثقافة نفسها. وجرى هذا كذلك بالتوازي مع الحديث الكثير عن مدنية الدولة، وتحديث المجتمع..
فإلى أين نحن ذاهبون فعلاً..!
الاستقطاب الذي شهدته مجتمعاتنا خلال السنوات الثلاث الماضية حوّل الجميع إلى جنود؛ فلم تعد أهمية المثقف في رأيه الخاص وقدرته على التفكير، بل في مدى استجابته لعمليات التجنيد وأدائه لمهماته القتالية، وعلى رأسها التحشيد الأعمى..
عمليات تحشيد تلغي التفكير، وتستبدله بأجندة دعائية واحدة للجميع!
وفي الواقع لا يمكن أن يفهم أحد إلى أين تذهب حركة التجنيد الشاملة هذه؛ لكن من المؤكد أن ليس لها علاقة لا بالثقافة، ولا بأي من القيم الأساسية التي يمكن أن تقود إلى تحديث مجتمعاتنا، وموازنة العلاقة بين المجتمع والدولة، وفك الاشتباك بين السلطة والسياسة..
ومن الواضح أن لهذه الحركة علاقة باقتراب نهاية الدورة الزمنية للسياسة في منطقتنا. وهذا ما يجعل حركة الاستقطاب والتجنيد تبلغ أشدها وذروتها، ولكن هذه الحركة التي تقدم رجال الدين والمتقاعدين العسكريين، هي ليست عملية مؤقتة النتائج، أو مسببة بظروف وغايات طارئة..
إنه تجنيد يرشحهم لصدارة المشهد في الدورة الزمنية الجديدة..
سيأتي يوم علينا يكون السياسي الوحيد هو عسكري سابق، ورجل الدين هو الممثل لـ"الثقافة" الوحيدة المسيطرة. وربما يكون ممثلو جند داعش وجبهة النصرة وأمثالهم من أعداء اليوم، هم أركان السلطة في الدورة الزمنية الجديدة للسياسة في منطقتنا..
إلى أين نذهب مدفوعين بكل هذا الحماس..!
ما نذهب إليه ليس له علاقة باحترام الدين، ومحاولة إدارة دوره وعلاقته بالمجتمع في إطار لا يعيق بناء دولة حديثة، بل هو استدعاء مباشر للتطرف الديني لاستثمار طاقته التحشيدية في مد الأنظمة بحياة جديدة..
ولكل نظام طريقته وأسلوبه الخاص في ذلك..!
وما نذهب إليه ليس له علاقة بتقدير قدماء العسكريين ومنحهم حقوقهم، في طريق السعي لتوظيف أعدادهم المهولة والمرهقة، وإمكانياتهم وطاقاتهم، في التنمية وبناء الدولة، بل في إعادة تدويرهم بمشروع اختزال الدولة في سلطة، وخلق عصبية "وطنية" عسكرتارية تبسط سلطانها على المجتمع والدولة، معاً.
ولكل نظام آلياته القسرية أو الاختيارية في ذلك!
وهذا، بدوره، ليس أمراً عارضاً يزول بتجاوز الأزمة الراهنة، ولا هو تكتيكات طارئة من مقتضيات مواجهة الواقع، ومحاولة النهوض من عثرات الماضي والحاضر إلى المستقبل..
إننا في الواقع نذهب إلى مغامرة ومخاطرة..
مغامرة غير عادية، يحركها إفلاس الأنظمة وعجزها الشامل، ويدفع إليها إحباط المجتمعات؛ ولا مجال للشك بحتمية نتائجها الكارثية، إذ ليس هنالك من نظام عربي قادر على ضمان النتائج، بما يتيح استبعاد القصدية والنية المسبقة من تفكيرنا حول كل ما يجري..
ما يجري هو ترتيبات جذرية، وما نذهب إليه الجحيم نفسه!