حتميات تاريخية
قبل عامين من اليوم (2013)، كتب أحد المحللين الروس في معرض تناوله لظاهرة «الربيع العربي» ملاحظاً أن الأمم في عز يأسها لا يمكن أن تتصرف كما الأفراد اليائسين؛ وهي بالتالي، لا تذهب إلى الانتحار، وإن كانت تُجيِّر نفسها ومصيرها لمغامرات أيديولوجية وفردانية، كما حصل في نموذجي ألمانيا وإيطاليا، لكن يمكن أن يتشوه وعيها، وتخور إرادتها، فتنساق إلى درك الإنحطاط.
وفي معرض تعريفه للانحطاط في حالة الأمم، يتحدث عن لحظة تغيب فيها الإرادة الوطنية، وتصبح الفردانية أقوى من المؤسسات، والفعاليات المضادة تفتقر للصلة بالمجتمع، لكنها تستمد غرائزه، وتكون أكثر تنظيماً وحنكة من أجهزة الأمن (الدولة) التي تقاومها. والصلات مع الخارج من كل الأطراف أقوى من مثيلتها في الداخل.
وكتب على إثر مشاهداته في مصر المشتعلة حينها، خلال أسبوعين حاسمين، فيقول: سيكتشف المصريون بعد أي خطوة يتخذونها على إثر هذه اللحظة، أنهم لن يجدوا جهة أقرب إليهم من روسيا. ومتأكد من أن موسكو حينها ستتفاجأ أنها مضطرة لتذكير المصريين بأن أول وأهم رئيس حكم مصر هو جمال عبد الناصر، وأن صورة مصر من دونه ناقصة ومزورة. ولن تكون هناك مشكلة في اعتراف المصريين بذلك، ولو بدواعي المجاملة المصرية المعروفة. المشكلة الحقيقية ستكون في دفعهم إلى استحضار الفارق ما بين التحول الإستراتيجي والانقلاب الجيوإستراتيجي الذي تجسد في الربيع العربي.
وجزم حينها أن إعادة صياغة العالم العربي على نسق «الربيع» لن ينتج خارطة سياسية جديدة، وسينتج خارطة عنف وإرهاب. وهذا استنتاج يبدو اليوم متأخراً، قبل أن نكتشف أن تزوير «ثورة» في سوريا قاد إلى إنتاج «داعش»، وحوّل أبرز الأسماء السورية المعارضة المحترمة قبل «الثورة» إلى عناوين مشبوهة.
واليوم، يكتب محلل سياسي روسي مرموق فيقول إن الخطوة الروسية في سوريا لها عنوان أول أساسي، يمكن أن يبدأ منه كل من يحاول قراءتها وتلمس أبعادها، وهو وضع نهاية للعملية الاستخبارية التي حملت اسم «الربيع العربي» وإبطال مفاعيلها.
ويلفت الانتباه، كذلك، إلى أن خزائن الثروة الأميركية المستباحة، التي كانت مليئة حصراً بأكياس من القوة والنفوذ وجرار من الهيمنة، أضحت اليوم مع دخول روسيا في الميدان السوري، في حاجة ماسة إلى النقد والمال؛ بينما تخاطر الولايات المتحدة في أن تجد نفسها غير ذات شأن في معركة مكافحة الإرهاب وخارج المعادلة الدولية الملحة، التي هي شغل العالم الشاغل، وهاجس أوروبا في الشق المتعلق باللجوء والهجرة. بينما تتحول معركة مكافحة الإرهاب إلى مهمة روسية محض. ما يجعلنا نتذكر كيف أخطأ المغرورون في أميركا، ولم يفهموا قبل خمس سنوات أبعاد الخطوة الروسية في تسيير دوريات بحرية في خليج عدن لمكافحة القرصنة.
ومن أكثر ما يلفت الانتباه هنا، السياقات الثقافية المضمرة في تحليل الخطوة الروسية؛ ففي حين لا يشك محلل روسي في أن الخطوة الروسية تزلزل الأساس الثقافي في العالم، الذي يعيش لغاية البوم تحت المعايير الغربية (الأوروبية) بدرجة ما، ويحتكم في لحظات غير قليلة إلى النمط الأميركي، إلا أنه يتساءل إن كانت روسيا التي واجهت الغرب على المستوى السياسي العسكري، لديها بديل جاهز يمكن طرحه على المستوى الثقافي.
لا يشك الكاتب أن الغرب وأميركا فاقدي الإرادة أمام التقدم الروسي. ويتساءل إن كانت روسيا ستلجأ إلى تسويغ نفسها بنموذجها الثقافي الخاص بتجربته السوفيتية المديدة في الاحتكاك بالثقافات العالمية، ومنها على وجه الخصوص الثقافات المهمشة. أم ستواصل استعارة عباءة الثقافة الغربية والأميركية على وجه التحديد، التي بدأت معها النخبة الروسية عمرها السياسي في الوفاق المدمر مع الغرب. وهذا يذكر بالمواجهة الكبيرة قبل سنتين بين بوتين ورئيس اتحاد الكتاب الروس فاليري غانيتشيوف، السوفيتي القديم، الذي أمضى عمره محسوباً على الأجهزة الشبابية في الحزب الشيوعي السوفيتي.
ويلاحظ محللنا أن روسيا قد لا يكون لديها البديل الثقافي الجاهز للإحلال. وبرأيه من المستحيل أن يكون لديها مثل هذا البديل، لأننا نتحدث عن نطاق واسع من السلوكيات والعادات والأفكار والمعتقدات والأساليب وطرق العيش والإبداع. لكنه يجزم أن حضور روسيا الدولي المتنامي، وخلفيتها الثقافية المختلفة، من شأنه أن يجعل العالم يتنبه إلى أنه استهلك أفكار ومثل وأساليب القرن العشرين، ولم يقدم شيئاً جديداً بعد. وأن أميركا أصبحت أصغر وأضعف من الفكرة الإمبريالية التي تفرض على العالم أنماطاً ثقافية وسياسات.
ويتمم هنا الفكرة كاتب آخر، من منتقدي سياسة بوتين في الاعتماد على اقتصاد الغاز وتجارة الموارد الطبيعية، ويطرح مفارقة مذهلة: حينما كان الاتحاد السوفيتي موجوداً، ويقوده الحزب الشيوعي، كانت أصغر الأحزاب الشيوعية تنتقده وتعتبره أصغر من الفكرة، ناهيك عن جماعات التروتسكيين واليسار المتطرف، والإمبرياليين. واليوم مع انحسار الآمال، وغياب الأيديولوجيات الكبيرة، فإن بقايا اليسار ومخلفات الأحزاب الشيوعية، حتى ما يندمج منها في السلطات وفي أجهزتها الأمنية، تندفع في تأييد النمط السوفيتي الجديد، الذي يقوده رأسمالي صريح؛ وأكثر من ذلك، فإن أعداء تقليديين للاتحاد السوفيتي يبدون اليوم ودودين ومتعاطفين، لدرجة أن المرء يشك بهوية المتعاطفين وطبيعة المتعاطف معه، وإن كان الأولون يعرفون حقاً مع من يتعاطفون!
هو يعني روسيا الجديدة وبوتين، وبإشارة إلى الحتميات التاريخية.
ربما هي اللحظة التاريخية، تفتح المجال أمام تحول عميق يفرضه الواقع، ولا يتحقق إلا بسلب الأفراد والمجموعات الفاعلة تمايزها ومواقفها الخاصة الغارقة في فوضى يومية، وتحييدها بعماء تاريخي، ليمر التحول متحرراً من كل رأي وموقف خاص!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.