جلسة لاستجواب بيكاسو
لديّ أكثر من سبب يدفعني للاعتقاد أن فيودر ميخائيلوفيتش دستويفسكي كان ليهتم جداً بحادثة سرقة الموناليزا الشهيرة في العام 1911، ليس فقط لأنه كان يحرص على حضور المحاكمات الشهيرة في عصره، التي استحضرها في أعماله. لكن، ربما، لأن هذه «الجريمة» ارتبطت باسمي اثنين من أشهر الأعلام، في مجال لا علاقة له، نظرياً، بالسرقة واللصوصية.
ولديّ، كذلك، أكثر من سبب للاعتقاد أنني لو قابلت فيودر ميخائيلوفيتش على ذاك الممشى الحصوي في سانت بطرسبورغ، لكان اهتم أن يسمع مني عن الحيثيات التي قادت التحقيق للاشتباه بالشاعر الفرنسي الشهير غيلوم أبولينير والفنان الإسباني الشاب حينها، بابلو بيكاسو..
وكنت سأعرض على فيودر ميخائيلوفيتش هذه الحيثيات بنقاط:
أولاً؛ حدثت السرقة في العشرين من أغسطس/ آب ذلك العام. وفي الأيام الأخيرة من الشهر نفسه، ظهر أفاق بلجيكي شهير اسمه جوزيف جيري أونوريه في مكتب إحدى الصحف الفرنسية، وباعها واحداً من التماثيل الإيبيرية الشهيرة، التي كان سرقها سابقاً من اللوفر، وأفضى للصحيفة أنه قد سرق أيضاً تمثالين آخرين من المتحف وباعهما لرسام «باريسي».
ثانياً؛ استنتجت الشرطة أن وراء السرقة تقف مجموعة لصوص من مستوى «رفيع ثقافياً»، وبينما راحت تدقق بعلاقات الأفاق البلجيكي، تنبهت إلى أن أهم صديقين له في باريس هما أبولينير وبيكاسو، وأن الاثنين لديهما آراء جامحة في الفن وموقف متطرف حول المتاحف؛ لقد وضعا، ابتداءً، مانيفستو الفن الحديث، الذي تبنيا فيه حكمة المركيز دي ساد: «في الفن، على المرء أن يقتل أباه». وكانا يدعوان إلى تدمير جميع المتاحف لأنها، بحسبهما، «تشل الخيال». بل واشتهر عنهما أنهما يتزعمان جماعة عرفت حينها على نطاق واسع في مجتمع الفن والمتاحف وبين جامعي اللوحات، باسم «فرقة بيكاسو»، التي ذاع صيتها من العاصمة الفرنسية وحتى نخبة الـ«نيو آرت ميوزيوم أوف نيويورك» باسم «همجيو باريس»، وكان ينظر إليها كعصابة «قطاع طرق» خارجة على الفن الكلاسيكي، تتبنى دعوات متطرفة إلى حرق المتاحف وسرقة الأعمال الفنية المكرسة، كأيقونات وروائع أزلية، لحرقها وتحطيمها.
ثالثاً؛ في الأثناء، أثارت اعترافات الأفاق البلجيكي، الذي يحب التباهي بمهاراته وخفة يده، فزع أبولينير وبيكاسو؛ فقد كان الأخير قد كلفه فعلاً بسرقة بعض التماثيل الإيبيرية من اللوفر. وكان اثنان من هذه التماثيل يقبعان في خزانة بشقة الفنان الشقي، الذي اعترف بعد عقود أنه استخدم التمثالين كـ«موديل» لرسم لوحته الشهيرة «فتيات أفينيون».
رابعاً؛ لذا، تسلل بيكاسو وأبولينير من شقة الأول، في منتصف ليل الخامس من سبتمبر/ أيلول، وسحبا التمثالين في حقيبة مسافة ثلاثة أميال عبر باريس لرميها في نهر السين. لكن دعاة حرق وتحطيم الأعمال المتحفية، لم تواتهم الجرأة على فعل ذلك.
خامساً؛ بعد يومين اعتقلت الشرطة أبولينير، ثم استدعت بيكاسو للتحقيق بقضية الموناليزا. وفي التحقيق أنكر بيكاسو كل التهم، ورفض اعترافات أبولينير عليه. بل أنكر معرفته بأبولينير نفسه، وأقسم أنه لم يره في حياته من قبل، أبداً. ومع عدم قدرة أبولينير على إرشاد الشرطة إلى التماثيل التي اعترف بسرقتها، وبالنظر للجدالات «المثقفة» والمعقدة، بالمفردات الحداثوية، التي تبادلها المتهمان، أفرجت عنهما الشرطة التي اعتقدت أنها إزاء هلوسات هستيرية من فنانين بوهيميين، منقطعي الصلة تماماً بالواقع.
سادساً، ظهرت الموناليزا بعد عامين في إيطاليا، وتحولت إلى قضية سياسية دولية بين باريس وروما، ألقت بظلالها على العلاقات بين العاصمتين. لكن الأزمة السياسية، التي يجب تتبع مفاعيلها على الحرب العالمية الأولى، صرفت الأنظار عن أن الحيثيات التي ظهرت بها اللوحة لم تخل من إشارات إلى المتهمين الأولين: أبولينير وبيكاسو، وصديقهما الأفاق البلجيكي.
سابعاً؛ في السنوات العشرين الأخيرة، كشفت الدراسات الرقمية المتطورة التي أجريت على اللوحة الأشهر في العالم أن تحت سطحها موناليزا أخرى أكثر صلة بالمرويات القديمة عن اللوحة.
وهذا كاف، كما كنت سأقول لفيودر ميخائيلوفيتش، ليجعلنا نتشكك بالرأي الذي فسر ذلك بعوارض مثل رغبة دفينة لدى دافينشي للسخرية من العقل الاجتماعي، أو استثماره للوحاته في إيصال شيفرة طقوسية لمصلحة جماعات التدّين السرية (داني براون). وجدير بدفعنا إلى العودة إلى حادثة سرقة الموناليزا، والبحث مجدداً في فرضية أن بيكاسو كان وراء السرقة.
وكنت سأرجو فيودر ميخائيلوفيتش أن يلاحظ معي ذلك الكم من البورتريهات النسائية في إرث الفنان الإسباني التي تذكر بالموناليزا، من وجهة تحطيمية ومعاكسة.
وكنت، أيضاً، سألفت انتباه فيودر ميخائيلوفيتش، على وجه الخصوص، إلى لوحة بيكاسو الشهيرة «المرأة الباكية»، التي هي بالإضافة إلى كل ذلك، تساوي في أبعادها لوحة الموناليزا، ناقص ما خسرته من سنتيمترات أفقية وطولية يفترض أن عملية قص اللوحة في أثناء السرقة اقتضتها، مضافاً إليها سنتيمترات أخرى تقتضيها إعادة الشد إلى الخشب.
كنت كذلك سأشير إلى أن علينا أن نوازي بين أمرين:
الأول، أن الموناليزا مشهورة بأنها لوحة الابتسامة السحرية، واختيار بيكاسو «المرأة الباكية» اسماً للوحته يهدم هذا معنى الجيوكوندا ويحطمه.
والثاني، أن لوحة دافنشي عرفت باسمين هما: «الجيوكوندا» و«الموناليزا». إلى جانب أن جزءاً من سحرها هو ذلك الوجه، بالابتسامة الهادئة، الذي لو رأينا نصفا منه لأدركنا أنه متجهم، ولو نظرنا النصف الآخر لوحده لرأيناه مبتسماً..
أي، الكل الواحد المنقسم بين ثنائيتين متناقضتين!
وهذا هو بيكاسو. بيكاسو ما بعد سرقة الموناليزا. الفتى صاحب اليد الكلاسيكية البارعة، الذي اختار أن يمسك بريشة «مجنونة» لا تقبل بجمود العالم «العاقل». ولوحاته التي امتلأت بثنائيات داخلية لا تنتهي. ومن ذلك لوحة «المرأة الباكية»، التي كنت، لو ملكت الحق، سأجري عليها ما جرى على الموناليزا من دراسات رقمية للحفر تحت سطحها.
وكنت سأحدث فيودر ميخايلوفيتش طويلاً حول شخصية بيكاسو، وأفيض في اعتقادي «المرضي» أن بيكاسو سرق فعلاً الموناليزا للأبد. لقد رسم عليها جيوكوندا أخرى، أو جعلها طبقة تحت ألوان إحدى لوحاته التي أرادت أن تحطم الشكل لتعيد تركيب معناه. وقدم في الحالتين للعالم، والعقل الاجتماعي، غير الإبداعي، موناليزا أخرى. وكنت سأدعم وجهة نظري بغياب اللوحة عامين قبل ظهورها فجأة، على نحو سهل، يبدو مقصوداً!
أنا، بالطبع، على ثقة أن فيودر ميخايلوفيتش كان ليسألني:
- -من يكون بيكاسو هذا..؟
وكنت سأقول في التوضيح:
- -أنه فنان إسباني، بدأ حياته مطلع القرن الماضي، واشتهر منذ العشرينات حتى اليوم.
ولا أشك أن فيودر ميخايلوفيتش سيقطب حاجبيه، حينها، وسيقول بحيرة وتوتر:
- -أفهم. أفهم. ولكن أنحن نتحدث، هنا، عن رجل، أم عن ثور إسباني عنيد؟
أحتاج فعلاً إلى فيودر ميخائيلوفيتش لأقيم جلسة استجواب لهذا الثور الإسباني العنيد، الذي بدأ حياته بالدعوة لحرق المتاحف، وأنهاها بالسخرية من نقاد الفن المرتبطين بالمتاحف، وأسواق المزادات، وبيوتات الأثرياء، ومحافظ البنوك المالية، وبالحرص على غشهم والتحايل عليهم «من قفا يده»، ببراعة. قبل أن يكتشف أنه ليس مجرد رجل، ولم يكن فناناً وحسب، بل حرباً أهلية طاحنة، بكل مليشياتها النظامية والمتمردة، السياسية والمسلحة، وبزعمائها وضحاياها، ولما فيها من تمزق جغرافيا، وتشظي للتاريخ.
ولسبب ما، لا مجال لشرحه، له علاقة الحرب الأهلية، امتد خيط «سري»، فيه مزيج من الامتنان والإعجاب في آن، يربط بيكاسو بشخصية الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، وهو ما يجعلنا نلاحظ أن بيكاسو رسم ستالين، بالطريقة التي يرسم نفسه بها.
وربما، كان بيكاسو الرجل، الحرب الأهلية الطاحنة، يهزأ بنا الآن، بينما نحن نبجل «الموناليزا»!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.