جريمة شريفة
من المسلّم به أن «الوطنية» قيمة إيجابية، لكن الحاجة إليها ليست كذلك. ومن الملاحظ أن «الاتفاق» العام حول إيجابية الوطنية، يطفيء أي نقاش حول «الحاجة إليها»، التي هي موضع شك؛ وهذا مفهوم نسبياً، فالشعوب حينما تكون بكامل صحتها التاريخية، و«قيافتها» السياسية لا تميل إلى استحضار المشاعر الوطنية، رغم أن ذلك يكون متاحاً لها بسهولة، بينما الشعوب المنكوبة لا تتوقف عن محاولة إيقاظ هذه المشاعر، وتفشل دوماً في ذلك، وعلى الأغلب تنتج صياغات مشوهة للفكرة الوطنية، وتعيش عليها.
لذا، من الغريب تماماً أن هذه القيمة الإيجابية، تستعصي عند الحاجة إليها، وتصبح في متناول سهل عند الاستغناء عنها؛ لأن من المستهجن تماماً أن تنطوي قيمة إيجابية عليا، يندفع الناس للموت في سياقها، وتدفع آخرين للقتل بحرية مطلقة، على كل هذا القدر من الانتهازية!
ومن الملفت أن «الوطنية» قيماً أخرى قاتلة، مثل «الولاء» و«الانتماء»، التي تحضر دائماً في مشاريع تستحضر «القيادة» السياسية الرسمية، في صيغة «وطنية» مستوجبة التقدير، وتضعها كما «الوطنية» في مقام الوطن نفسه، في اعتداء مفاهيمي واضح، يضعنا مباشرة أمام التفكيك الماركسي للفكرة الوطنية، الذي يعريها من كل رومانسيتها، وإحالاتها المخاتلة.
والفكرة المذهلة هنا، ليست في أن «الوطنية» مؤشر على اعتلال اضطراب تاريخي، لا مؤشراً على صحة الشعوب كما يخيل إلينا عادة، بل في أن هذه القيمة الايجابية هي في واقع الأمر واحدة من حقول الجريمة الأكثر سواداً، وأبرزها جرائم الاتجار بالمخدرات، والسلاح، والبشر والأعضاء البشرية، والعملة والصكوك الورقية، التي تتغذى جميعها بتقنيات النظام الرأسمالي، الذي كان ولم يكن من بد إلا أن يكون عالمياً!
وتفترق جرائم الوطنية عن مثيلاتها، في قطاعات المخدرات والسلاح والبشر والصكوك الورقية، أن جرائم المخدرات تستقطب معدمين عديمي التعليم مهوسين بالحصول على دعم المال في تغيير وضعهم الاجتماعي، ومغامرين فقدو الحس الانساني في حالة تجارة السلاح، ومهوسين وجدوا ضالتهم في ارتكاب جرائم دموية باستخدام مباضع الجراحين، ومقامرين في سوق المال في حالة الصكوك الورقية، بينما الجرائم الوطنية يرتكبها في الغالب مثقفون بصبغة سياسية لحساب مقاولين سياسيين وأمنيين أصلاء.
والفارق المتوقع بين كل هذه الجرائم السوداء، والجريمة الأكثر سواداً التي تستخدم الوطنية، أن الجريمة الوطنية تبدو جريمة شريفة، وأن كل تلك الجرائم السوداء الأخرى تتوخى السرية بدرجة أو أخرى، بدءاً من السرية المطلقة وصولاً إلى السرية الشخصية، كما في حالة الصكوك الورقية. وجرائم الوطنية تنشد العلنية والانتشار الاعلامي، وتحقق شعبية هائلة، لا سيما في حالة اعتلال الصحة التاريخي.
وتختلف جرائم الوطنية عن سواها من الجرائم السوداء، أنها تعيش على عمولات مالية تافهة مقارنة بغيرها، وتقدم هذه التضحية لقاء طموحها بالحصول على دور داخلي بدعم قوة وتوازن خارجية.
وهنا انتهازية الوطنية التي قد تكون غطاء للخيانة «الوطنية» التي تزينها المهارات اللغوية!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.