توق المثقف للمدينة

توق المثقف للمدينة
الرابط المختصر

أميلُ للاعتقاد، وبثقة عالية، بأنَّ غالب هلسا الكاتب، ومن داخله كإنسانٍ ومثقف، كان مَدَنيّاً صِرفاً. فهو، بالرغم من انتمائه للريف من حيث النشأة الأولى؛ إلّا أنه اختزنَ توقاً حميماً وعميقاً لأن يحيا ابناً لمدينة. لمدينة كبيرة بكل ما تعنيه كلمة "مدينة" بوصفها حلم المثقف الآتي من أدب عالميّ وقراءات فكرية مبعثها الفضول المعرفي. ولهذا السبب تحديداً يمكن لنا فهم تعلقه بالقاهرة: عَيشاً ومعايشةً غائرةً لها ولحيواتها المتنوعة، وحنيناً أشبه بنستالاجيا "الفردوس الضائع". لم يتنكَّر لبيئته الأولى المتمثلة في "ماعين وعمّان"؛ غير أنه ما كان مكتفياً أو راضياً بها كاستقرارٍ مقبول. ويبدو أنَّ "رؤية ومفهوم" المدينة لدى غالب هلسا، وعلى نحو مبكِّر، تمثلا في ما هو ليس بـ"عَمّان" بوصفها عاصمة وطنه. لا بل نجده، في غير مكان ومناسبة، يمارس عليها نقداً مريراً وصل درجة النفور فالرفض. وأكاد أنتهي إلى أنّه رأى فيها مكاناً أضيق من أن يتسع لطموحه في أن يكون "كاتباً" و"مثقفاً" – بالمدلول الأرحب من "كاتب ومثقف أردني." كما أزعم بأنه أجرى تماهياً بين المدينة والمثقف، وأنَّ هاتين الكلمتين تلازمتا لديه، فإذا غابت الأولى (المدينة) أو استحالت، انتفت الثانية (المثقف) أو انْتُقِصَ من كمالها.

لعلّني، عند هذه الوقفة الناتجة عن تأملٍ في كثير من حواراته الصحفيّة وسروده القصصيّة والروائية، قد أغراني الاستنتاج المُفضي إلى أنَّ "حكاية" وصفه بـ"المناضل المُلاحَق، وبالتالي المنفيّ" من قِبَل النظام في بلده قد تمّ تضخيمها والإطالة من عمرها إلى حدّ "الأسطرة الثقافية"، وإنْ كنت أعي الموجبات السياسية لذلك ودوافعها، ولمحطّة اعتقاله الأولى وهو في شرخ شبابه. لكنَّ اللافت في سيرة ومسيرة غالب هلسا الكيفيةُ التي عالج بها "شطره السياسي/ النضالي" في كُلٍّ من عمّان، وبيروت مرحلة الدراسة الجامعية المؤقتة، وبغداد نشاطه الأول فيها. وأراني أتخيّله، عند مراجعاته لتلك المحطّات بينه وبينه، يعتمل في نفسه يقينٌ أو ما يماثل اليقين في:"نعم؛ هكذا ينبغي للمثقف أن يكتب حياته." كأنما ظاهر شخصية غالب هلسا هو بِطانة بطل الكاتب غالب هلسا، وليس ثمّة من فارق بينهما!

أكان يطمح أن يتسم بـ"بطولة الخاسر" في أزمنة الخيانات، والانتكاسات، والتخلّي الوطني القبيح؟ (ولا أقصد هنا، بالتأكيد، سعيه - كما سعى ويسعى كثيرون حتّى الآن - لأن يدخل إطار "الضحية" وصورتها) فهو، بموقفه الصريح في قولته وجرأته، في القاهرة أيام سادات التخلّي والتنازلات المهينة حيث دفع الضريبة بنفيه عنها، لم يكن إلّا مخلصاً لجوهره كمثقف وطنيّ تقدميّ في الصميم منه، مجانِباً لأيّ حزب يؤطره داخل مفهوم "المؤسسة"، وككاتب تنسجم نصوصه مع حياته وتنضفر بها.

المدينة الكبيرة، المثقف النقدي، الكاتب لنصوصٍ تحديثية لا تشبه أو تتشبه بغيرها، المناضل صاحب الرؤية المتحررة من أي قالب، والموقف غير المساوم على ما يراه بمثابة المبدأ: هذا هو غالب هلسا.

أما إذا أردنا ترجمة المدينة الكبيرة بتعيينها؛ فإنها القاهرة لا سواها. والمثقف النقدي؛ فيتجلّى في "العالم مادة وحركة: دراسات في الفلسفة العربية الإسلامية" و"الجهل في معركة الحضارة". والكاتب لنصوص تحديثية؛ فلدينا أعماله السردية الكاملة، روايةً وقصصاً قصيرة. والمناضل المتحرر المستقلّ غير المساوم؛ ففي"أزمة ثورةأم أزمة قيادة"،وعار إبعاده عن فردوسه ثمناً لكونه لم يخن نفسه بما تتضمن من قَناعات.

لم تشكِّل بيروت لغالب هلسا مدينة تعويضية عن القاهرة أو بديلاً، بقدر ما كانت ساحة مفتوحة كتب في أزقة شطرها الغربيّ وشوارعها الفقيرة الجزءَ الكامل للبُعد النضاليّ غير الهَيَّاب في شخصيته، واحتمالية الموت داخل سياج حصارها في 1982 ونيران القصف الصهيوني، والقبول به ما دام هذا هو الاختيار.

وبغداد بعد الإبعاد/ النفي؛ فتجربة بدا أنَّ "المرارةَ" التي تجرعها هناك كانت أثقل من أن يرتضيها لنفسه، رغم "الضيافة" إيّاها و"التقدير" إيّاه!

ودمشق! يا لتلك الـ"دمشق" المدينة الأخيرة، حيث لم تقدر أن تبذرَ فيه سوى احتراقاً متصاعداً وصَبابةً ملتاعة للقاهرة/ المدينة الحقة. ولَمّا لم تنجح كل محاولات مُحبيه المصريين في إعادته إليها؛ استسلمَ لأن تنتهي رحلته من حيث بدأت: إلى عَمّان، في تابوت مغلق، رغم إرادته!

أكان "المغترب الأبدي" حقاً؟

حَيّاً.. وميتاً؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.