تلك المتاهات الدبقة

تلك المتاهات الدبقة
الرابط المختصر

كيف يمكن أن نصفَ السياسيين في أوطاننا العربية؟

إذا كان الصديق ياسر قبيلات قد وصفهم بالعموم، في مقالته الماضية، بـ "الجالية البشرية الكريمة" ساخراً - إنما بِوَجَعٍ ومرارة تراكما لديه عبر التجربة؛ فإني أرى في العرب منهم العبقريةَ في قيادتنا نحو الكوارث. أفذاذٌ هُم في شق الطُرُق، وبالاتجاهين، صوب كافة ضروب الفشل في حل مشكلات أوطاننا ومواطنينا! ولا عَجَب؛ إذ كيف ننتظر منهم معالجةً لتلك المشكلات في حين كانوا، وما زالوا، السبب في خلقها واستمرارها وتفاقمها أيضاً! فمن مستحيلات الحياة أن نقبل تصريحاتهم اليومية الزاعمة نهج "الإصلاح"؛ للمنطق البسيط القائل باستحالة أن يكون الداء هو الدواء.

لستُ هنا بصدد التخصيص وشخصنة مَن يتشحون بأردية "السياسة" وتلاوينها، فلكل واحد منهم حججه وتبريراته وأنه "لم يكن موجوداً" وقتذاك، وبالتالي ليس هو المسؤول. أما ماذا يقصد بذاك الوقت؛ فربما وقت خلق المشكلة، أو وقت استمرارها، أو وقت تفاقمها. لا يهم. لا يهم أبداً. لأنَّ مجرد السعي للانضمام لنادي "السياسة"، ومن ثَم الحصول على بطاقة العضوية، إنما يُدْرِجُ حاملها ضمن قوائمها، بصرف النظر عن كونه من "المحاربين القدامى" الذين خاضوا حروبهم الغابرة (لكنهم ما زالوا يتململون حنينَ الفرسان لأفراسهم ويحمحمون)، أو أولئك "الصاعدون الجُدد"، رجال البزنس، في معارك لم تزل في أوّلها وغبارها غير طالع بعد.

نعم، لست بصدد التخصيص والشخصنة ولا يعنيني هذا الأمر، لأن سياسيينا يتحركون داخل نظام عام متكرِّس (لعلّه متكلِّس) قد تتغيَّر بعض اشتراطاته وطروحاته، لكن جوهر بنيته ثابتة لا يطالها سوى رُتْقٌ هنا، وقَصُّ هناك، وإطالةٌ هنالك في البعيد. ولذلك، فإنَّ الكوارث لن تتوقف، وسيحيا "الإصلاح الحقيقي والصادق" حياةَ تأجيلٍ أبدية طاهرة نقيّة بانتظار أن يبدأ.. ولن يبدأ. إنه كشخصية صموئيل بيكيت المسرحية الأشهر: "غودو" الذي لن يأتي. والطريف في هذه المسألة (وهنا أسمح لنفسي بالانحراف صوب الأدب؛ فالخاطرة تجرّ الخاطرة) أنّ الكاتب الأرجنتيني "الأعمى" بورخيس كان أن صدم القُرَّاء حول العالم عندما قال عن مسرحية بيكيت هذه، "في انتظار غودو"، التي تُعتبر أحد أهمّ نصوص مسرح اللامعقول:

"صموئيل بيكيت مملّ. شاهدتُ مسرحيته في انتظار غودو، وكان ذلك كافياً بالنسبة لي. رأيت في المسرحية عملاً ضحلاً للغاية. لماذا ننزعج إنتظاراً لغودو إذا كان لن يأتي أبداً؟"

حقاً، إنه اللامعقول! حقاً، كان بورخيس بصيراً أكثر من جميع المراصد. لماذا ننزعج انتظاراً لإصلاحٍ حقيقي وصادق يطال أسباب الكوارث ومسببيها، ما دام أنه لن يأتي أبداً؟ أولسنا، في انتظارنا محاربة الفساد الإداري والمالي، والتطرف والتعصُّب الدينيبن -والإرهاب كنتيجة منطقية لذلك، والتجهيل كسببٍ أوّل، والبطالة، وتسليع التعليم المتدني والطبابة بتكاليفهما الفَلَكيَّة، حيث يتسلَّع الإنسان بالتالي، (نَسْخاً لشعارات جميع النوَّاب السياسيين)، ناهيك عن فلسطين وتحريرها! إننا، في انتظارنا تحقيق ذلك كلّه، نكون كمثل مَن يُجْبَر على الجلوس لمتابعة مسرحية مملَّة حدّ الاختناق؟

قد يصدف لأحد "المحاربين القدامى" أو "الصاعدين الجُدد"، ولكن من سياسيي المعارضة التاريخية هذه المرّة، من أقصى اليمين حتّى أقرب اليسار، أن يفرح لهذا المقال عند هذه النقطة، ويرى فيه توكيداً لطروحات حزبه.. أو جبهته.. أو تنظيمه.. أو جماعته.. أو جمعيته، إلخ. لكنها ليست النقطة في آخر القول.

إنَّ لميراث حياتنا السياسية وجهان: وجه السلطات، ووجه المعارضات. وبقدر ما تمتاز السلطات بحذق واحترافية خلق الكوارث تلو الكوارث، تتميُّز المعارضات بعبقرية وعِناد طرح الإجابات المضمونة عن أسئلة جاءت من "خارج الامتحان" الوطني، والمستخرَجة من غير "المقرر" على الواقع وفيه. فالسلطات تجترحُ المشكلات الواقعية المستدامة بجدارة عالية، والمعارضات تجيبها على نحوٍ شِعاراتيّ معاكس موسميّ تارةً، وتنظيريّ إنشائيّ هائم تارةً، وترهيبيّ متوعِّد باسم السموات العُليا الآن. إنَّ أسئلة/ كوارث السلطات لا تُجاب من المعارضات سوى ببيانات احتجاج على ورق، وتظاهرة من حفنة رايات ملوَّنة وصراخ، وكفا الملتزمين شرَّ القتال! كأنها بذلك كلّه تتقدم للإعلام بشهادات تبرئة ذِمَّة! أما الوطن ومواطن الوطن؛ فمجرد كلمات تُلقى للّعب والتلاعب وتمويه ما ليس بمموَّه. أو هي (بحسب ما جاء في مقالة الصديقة شهلا العجيلي الأسبوع الماضي): مجازات وليست حقائق!

أأتحدّث عن السياسة، أم أتحدّث في السياسة، أم لست هنا ولست هناك؟

ليست هذه، بمثلث أضلاعها، سؤالاً من ضمن "المقرر" و"الامتحان". فالسؤال في أصله الأوّل: ما طبيعة السياسة؟ أما الجواب المُقتبَس الحاضر أمامي؛ فكان أن أشار له المناضل اليساري الفرنسي، رفيق غيفارا سابقاً، المثقف النقدي والأكاديمي اليوم، ريجيس دوبريه، إذ كتب ذات مقال:

".. تَوَجَّبَ أن نغورَ في أنفاق السياسة التي لا منافذ لها، في تلك المتاهات الدبقة!"

تكمن المفارقة، هنا، في أن دوبريه كان يقصد السياسة في بَلد ترسخَّت داخل مجتمعه تقاليد العمل السياسي ومؤسساته (سلطة ومعارضة)، وترأسَ جمهورياته "سياسيون" مثقفون يقرؤون، وعارضهم "سياسيون" على السويّة الثقافية نفسها.

أما نحن؛

ففي "تلك المتاهات الدبقة."

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك