إغلاق مكاتب شبكة الجزيرة في مناطق السلطة، أدلة ودلالات
جاء قرار السلطة الفلسطينية بإغلاق مكتب قناة الجزيرة في مناطق الضفة حاملاً دلالات كثيرة تجاوزت الرغبة الغريزية لأي سلطة غير ديمقراطية بفرض تعتيم على ممارساتها القمعية وتفصيل روايات الأحداث على مقاساتها ووفق سياقاتها.
من نافلة القول أن تقييد عمل الصحفيين لأسباب سياسية يشكل ولا ريب خرقاً لحرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومة ومبادئ عمل الصحافة الحرة، وهو ما أتى على ذكره وبحق البيان الذي أصدرته شبكة الجزيرة احتجاجاً على قرار السلطة بغلق مكاتبها في مناطق السلطة الفلسطينية ووقف عمل طواقمها.
والواقع أنه يجب تناول هذا القرار بالتحليل من زاويتيه، الأولى المتعلقة بمتخذه وهي السلطة الفلسطينية وحقيقة هدفها منه وما قد يمكن استقراؤه بين السطور،أما الزاوية الثانية فهي ردّة فعل شبكة الجزيرة وما تعكسه من أداء إعلامي مغرق في التسيس والانحياز منبتّ الصلة بالمهنية المدّعاة.
منذ إعلان فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والحديث يتزايد عن ضرورة إنجاز شيء ما في حرب الإبادة الدائرة في قطاع غزة قبل تولي ترامب سلطاته الدستورية في العشرين من كانون الثاني/يناير الجاري، الأمر الذي أكّد عليه ترامب نفسه أثناء حملته الانتخابية وبعد إعلان فوزه، زاعماً أنه هو الوحيد القادر على إنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية دائمة تكفل أمن إسرائيل والهدوء في المنطقة. وإذا ما استحضرنا المسألة الأهم من وجهة نظر مجرمي الحرب في إسرائيل حول إنهاء حرب الإبادة في غزة؛ وهي ما يسمى ب«اليوم التالي لإنهاء الحرب ونهاية حكم حماس»، أي مَن وماهية السلطة التي سوف تدير القطاع خلفاً لحركة حماس التي بالمناسبة يرفض قادتها حتى اليوم الاعتراف بالتسبب بجر غزة وأهلها إلى أتون هذا الجحيم المستعر وتقديم القطاع بأهله فريسةً لسادة المجازر وساديّوها؛ يغدو الباعث الحقيقي الكامن خلف اجتياح قوى الأمن الفلسطينية لمخيم جنين في هذا الوقت أقرب للفهم.
في أكثر من مناسبة، صرّح مجرم الحرب الفارّ من وجه العدالة نتنياهو؛ أنه لا يعتبر السلطة الفلسطينية خياراً وارداً لتولي زمام الأمور في غزة خلفاً لحماس، حيث ما انفك يردد أغنيته المفضلة «لا حماسستان ولا فتحستان»، ليأتي السؤال هنا، هل تأتي الحملة التي تشنها أجهزة أمن السلطة في مخيم جنين ضد المسلحين بمثابة استعراض للعضلات الأمنية والسياسية يؤدى أمام ترامب وإدارته لإظهار القدرة على ضبط الأوضاع الأمنية في المناطق التي تخضع لسيطرة السلطة وإثبات جدية رئيسها وطاقمه الوزاري والأجهزة الأمنية للتعامل مع أي قوى مسلحة قد تنشط في المناطق التي تحت سيطرتها؟ ومن ثم طرح نفسها بوصفها «البديل الأمثل لملء الفراغ» بعد وقف الحرب في قطاع غزة وتقديم أوراق اعتماد إدارة شؤونه بعد استكمال تدميره وتهجير سكانه وقتلهم ؟
كانت الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن تظهر ميلاً لإسناد إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية ضمن شروط معينة أوضحها قيام السلطة ببسط سيطرتها الأمنية على المجموعات المسلحة أياً كان تصنيفها وتوصيفها، كما جاء على لسان بلنكن وزير خارجيتها أكثر من مرة، وهذا توجه تدعمه دول الاتحاد الأروبي التي اعترف عدد منها بالسلطة الفلسطينية باعتبارها دولةً قائمةً على مناطقها، وهو التوجه الذي تميل إليه عدد من الدول العربية الفاعلة مثل مصر والأردن والسعودية والإمارات، لكن بالتأكيد ليس قطر التي تشهد علاقتها بالسلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس اضطرابات وتشنجات منذ فترة طويلة بسبب الدعم القطري الصريح لانشقاق حركة حماس وتدعيم أركان حكمها في القطاع على مدار السنوات ال19 الماضية من خلال إمداد الحركة بالمال الوفير وتأمين ملاذ وحرية حركة لقادتها، وليس ببعيد تصريحات رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم منذ 13 سنة التي هاجم فيها الرئيس عباس هجوماً لاذعاً في مؤتمر صحفي، أشار فيه بجرأة إلى أنه لديه توثيق للمكالمة الهاتفية التي دارت بينه وبين محمود عباس ، وكأننا في معرض تصريحات لمرتضى منصور رئيس نادي الزمالك الأسبق الذي اشتهر بتهديد خصومه بالسيديهات والمكالمات المسجلة.
توجه شبكة الجزيرة هو انعكاس واقعي وحتمي لتوجه دولة قطر القديم الجديد بدعم حركات الإسلام السياسي الناشطة عسكرياً و/أو سياسيا، كما حدث مع الترويج والتسويق للحركات الإسلامية التي وصلت بعضها لسدة الحكم عقب «ثورات الربيع العربي»، هذا بخلاف السياسات المستمرة الداعمة مالياً والسياسياً للحركات الأصولية وأحياناً الإرهابية، ودعوتها لفتح ممثليات «دبلوماسية»لها في الدوحة، كما هو الحال مع حركة طالبان، ناهيك عن تسخير الذراع الإعلامي الحكومي الأقوى والأطول المتمثل بشبكة الجزيرة لإعطاء مساحات مفتوحة لقادة هذه الحركات وأدبياتها الأصولية وما يصدر عنها من بيانات؛ لتصل إلى الجمهور المستهدف بل والترويج المبالغ فيه بأشكال مختلفة لهذه الحركات وممثليها من خلال المقابلات الإعلامية الموجهة والبرامج الوثائقية، والمناظرات أحادية الاتجاه التي يقف فيها مقدم المناظرة وقفة الأم الخائفة على رضيعها إلى جانب ممثل الحركة الأصولي المتطرف المستضاف، كيف لا وقد كانت الجزيرة القناة الفضائية الأولى التي تطوعت لتسجيل ما يشبه فيلم دعاية انتخابية لجبهة النصرة في سوريا منذ أكثر من 10 سنوات، حيث تم تصويرها بأنها حركة معتدلة عادلة ينعم كل من يعيش تحت جناحها وفي مناطق سيطرتها بالأمان. فقد أجرى مقدم البرامج ذو التوجه الإسلامي الصرف في شبكة الجزيرة أحمد منصور، مقابلةً مطولةً مع أبو محمد الجولاني –أحمد الشرع في حلّته الجديدة- واستثمر منصور كل ما أوتيَ من مهارة وخبرة إعلامية لتوجيه أسئلة إيحائية وطرح تساؤلات تفضي إلى أجوبة ونتائج تصب جميعها في إظهار الرجل وعصابته بأنهم رسل الله وملائكته على الأرض.
إذا ما وضعنا هذه الحقائق والسياقات حول انحياز شبكة الجزيرة لاتجاه بعينه يجسد توجه الحكومة المموِلة والمشغِّلة لها، فإنه يمكن فهم تجاوز الشبكة إلى ما هو أبعد من البيان المندد بإغلاق مكتبها في مناطق السلطة الفلسطينية إلى تسخير كمراتها ومراسليها لتسويق موقف ورسائل ما يعرف ب«كتيبة جنين» وإظهار ما تقوم به الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضدها باعتباره مُناظِراً لما يقوم به جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين ضد المقاومة في الضفة والقطاع.
لا يمكن إنكار دور مراسلو قناة الجزيرة أثناء ثورات أو فورات الربيع العربي، وكذلك دورهم في تغطية العدوان الأمريكي على العراق خلال إدارة جورج بوش الابن،ودورهم البطولي في توثيق جرائم الاحتلال في قطاع غزة، إلا أنه لا يمكن في المقابل إنكار صمت القناة المريب عن انتهاكات طالت حرية التعبير في صميمها في المحيط الذي تنشط فيه بما في ذلك دولة التمويل والتشغيل نفسها، وكذلك طيها لصفحة متابعة قتل الصحفي جمال خاشقجي والتنكيل بأمثاله من الناشطين والناشطات في منطقة الخليج بل حتى التوقف عن الإشارة إلى أي بيان إدانة صادر عن منظمات حقوقية لانتهاكات تتعلق بحرية الرأي والتعبير والاعتقال على خلفية نشاط سياسي.. وذلك كله فور تحسن العلاقات بين قطر ومحيطها الخليجي.
ارتكبت السلطة الفلسطينية جرماً في حق الصحافة بمنعها طواقم قناة الجزيرة من العمل في المناطق الخاضعة لسلطتها وهذا ليس غريباً على سلطة تستمد وجودها وقوتها مما تيسّر من البطش ودعم محبي الاستبداد والقمع في المنطقة، ثم ارتكبت السلطة وما تزال خطيئةً باتخاذ مخيم جنين مسرحاً استعراضياً تؤدي عليه عرضاً عسكرياً وفقرة سياسية بائسة لنيل رضى ترامب وفريقه ومن ثم رضى مجرمي الحرب في إسرائيل تمهيداً لمنحها صكّ إدارة قطاع غزة المختطف والمستباح منذ سنوات.
في المقابل، يحق لشبكة الجزيرة التنديد بما تعرضت له من تقييد ومنع من العمل على يد السلطة الفلسطينية، إلا أنه لا يحق للقناة الإمعان في الانحياز الواضح لطرف نيابةً عن طرف على حساب طرف، مستخدمةً إمكانياتها الفنية واللوجستية الهائلة لتمجيد من ترغب الحكومة الممولة بتمجيده وشيطنة من ترغب بشيطنته، ثم الاستخفاف بعقول متابعيها بادعاء المهنية وارتداء ثوب الضحية، فما شبكة الجزيرة بقنواتها ومنصاتها إلا وسيلة إعلام حكومية عربية تقليدية لكن بإمكانيات وفيرة ومساحات كبيرة وخبرات وكفاءات عالية.
المعركة بين شبكة الجزيرة والسلطة الفلسطينية هي معركة بين سلطتين، إحداهما مدعومة بحلفاء والأخرى تموّل وكلاء، والجميع يقسم بظلم المعتقلين ودماء الشهداء ووقار شيوخ فلسطين وصمود النساء وأحلام الأطفال الأبرياء.