"تكوين": مراجعة شخصية، وجَرْدة حساب
1.
سنة وأربعة شهور، تقريباً، هو الزمن الذي مرّ على "تكوين" ومقالات كاتباتها وكتّابها. زاوية أراها مساحة رحبة ما تزال، كما أردناها منذ البداية، تحتمل آراءً قد تكون مغايرة في طبيعة المنطلقات عمّا يُنشر، غالباً، في سواها من المواقع الإلكترونية – أو هكذا أعاينها دون أن أجاملَ أحداً هنا، أو أتقصّد الانتقاص من آخرين هناك. والمغايرة، بمعنى اختلاف زوايا النظر إلى القضايا والإشكالات التي تعرضت لها مجمل مقالات "تكوين"، إنما جاءت انسجاماً وتوافقاً مع البنية الثقافية/ المعرفية لصاحبات وأصحاب تلك الكتابات. بنية ليست منشغلة بملاحقة اليومي في أبعاده السياسية لتنحصر فيها وتتحدد، مثلما هو الحال الكتابي السائد منذ عقود في الصحافة الأردنية (حتّى وأنْ مرّت عبرها للضرورة)؛ بقدر ما حاولَت استغوارها في الطبقات الأعمق: في الإنسان الذي تمت عمليات "تكييفه وتأهيله" من أنظمة الحكم المتعاقبة عليه– والتعليمية منها ليست ببراء -، ليتحوّل إلى "إنسان ردّة فعل" بدلاً من أن يترسخ، في مرآة ذاته، "إنسان فِعْل"!
ربما يشكّل هذا الأمر أساساً مفهوماً للمغايرة والاختلاف المتأتي، في الوقت نفسه، في "اللغة" التي تتحلّى بها غالبية الكتابات بحيث تبدو، للهانئين بطبيعة "الوجبات" الأكثر رواجاً، الأسرع توصيلاً، لغة صعبة عصيّة على التلقي الفوري، دفعت البعض للشكوى والتململ.
لا بأس. إنها مسألة عادة واعتياد، وبالتالي إنها مسألة وقت لمن يحتفظ ما يزال بجمرة الرغبة بـ"كشط" القشور، والتوق لتلمس لُب الأمور.
2.
لم نبحث في "تكوين" عن الإثارة اللاغية لِمَلَكَة التفكير عند القارئ وتهييجه ليتراكض بهذا الاتجاه، أو النكوص نحو ذاك الجانب. لم يكن "التوجيه" هدفاً لنا باعتبار القارئ مجرد متلقٍ يَسْهُل استفزاز الخبئ في أعماقه و"تجييره" لقضايا معينة. بالمقابل، وبالضد الكامل من هذا، بحثنا وما زلنا نبحث عمّا يتخفّى وراء الظاهر من الأشياء. نشير بأصابعنا إليها بصراحة، لا نوارِب أو نداري، ونُشْهِرُ اجتهاداتنا بخصوصها، ونقوم بتسمية الجهات المسؤولة وتاريخ تلك الجهات ووجوهها.
كان لهذا الأمر ردود فعل مختلفة لدى فئات شتّى. منها مَن رأت فيه مبالغة، ومنها مَن قرأَته بوصفه تهجماً، ومنها مَن استحسنت طرحه، ومنها مَن ألهمها جهلُها بأنه محض كُفْر، ومنها مَن لاذت بالصمت العاجز عن الرد. ولا بأس أيضاً: إنها مسألة الاختلاف والحق الطبيعي في وجوبه، ما دمنا لسنا مستنسخات منزلقة من آلة طابعة! غير أنّ الجوهري في مسعانا، وفي طريقنا في مسعانا، هو أن نقول لقارئنا: مهلاً لو سمحت يا صاحبي. فقط، أريدك أن تقرأ قبل أن تقول. أن تفكّر قبل أن تفعل. أن تعيد النظر في قناعات تبدو لك يقينيات، أو على الأقلّ أن تفحصها على ضوء طروحات لم تكن تعرفها.. فتعرَّفْ عليها الآن. أن نقول: لا ضير من الرأي والاجتهاد المختلفين – إذ كلّ واحد منا هو "مختلف وآخر" لو ندري!
أم هذه ألـ"نحن" الجمعيّة، كما يريدون إقناعنا، مجرد "مُنْتَج متكامل" طالع من "خطّ إنتاج" غير قابل للتغيُّر أو التعديل!
3.
تعَمَدَّنا في "تكوين" التعدد في كاتباتها وكتّابها من حيث التخصصات والانشغالات والاشتغالات من جهة، والتوافق على مبدأ التنوير مسعىً أساساً وهدفاً لا مبرر لاجتراح هذه المساحة من دونهما، من حيث الأصل.
لم نُمْلِ على أحد موضوعاً يخصص كتابته عنه، والتزمنا مبدأ التحقق من "المعلومة" حدّ إغضاب البعض، قبل بناء الموقف أو اجتراح الرأي. فالكتابة، كما نفهمها ونمارسها حقاً وفعلاً، تبدأ مسؤولية.. وتُكتب بمسؤولية.. ونتحمّل نتائجها بمسؤولية.. ولا نتهرّب أو نُسَوِّف.
ولأننا سلكنا هذا الدرب؛ كان أن قامت بمزاملتنا لبعض الوقت أسماءٌ نحترمها ونحترم علاقتنا بها، ثم ما لبثت أن انسحبت، ربما لأننا فشلنا في إيصال فكرة "تكوين" كاملة وكما ينبغي. وبأننا لسنا كسوانا في رسمنا لمعاييرنا. وبأننا لسنا، حيال أسماء أخرى اعتذرت عن المشاركة، من المواقع "الثرية" التي "تتصيّد" الكتابات بشبكة المكافآت المالية الأعلى!
وفي المقابل، كان أن انخرطت أسماء وكتبت ما اختزنته على أفضل وجه، ثم كّفَّتْ وتوقفت لأنَّ جعبتها من القضايا التي تراها "الأنسب والأقرب" قد أفرغتها.. فما عادت للمواصلة إلّا معنى الاجترار! كل الاحترام للصدق وكل التقدير للصراحة.
4.
كُتب هذا المقال باقتراح من محرر "تكوين"، الصديق محمود منير.
حثّني على "جردة حساب"، أو "مراجعة" شخصية لـ"مشروع" أردناه أوسع من مجرد مقالات. أردناه مساحات تتمازج عليها كافة وسائل التعبير السمعية والبَصَرية، إضافة للكتابات. أردناه منصة نفتح فوقها الكثير من الملفات. ملفات لم تُفتح: ملفات فُتحت على استحياء: ملفات تمت إضاعتها سهواً.. وقصداً.
لم نيأس بعد. ثمة ما يكفي من تفاؤل. ولعلّ قادم الأيام يحمل لنا بشائر.. ولو قليلاً.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.