تكوين: أن نفكِّر بحريَّة

تكوين: أن نفكِّر بحريَّة
الرابط المختصر

ما بين سقوف الأفكار المُسبقة وجدران الصُّوَر النمطية، كثيراً ما يُحصر الواحدُ منّا، بل ويُحاصَر إلى درجة يتحوّل فيها إلى سجين، أو رهينة! سجين مطمئن لتلك الأفكار المُصاغة عنه وعن العالم كقوالب جاهزة من قِبَل غيره لا تقبل المساءلة. ورهينة خاضعة لمجموعة الصور النمطية التي تشكلَّت، في معظمها، قبل ولادته بعقود وعقود لتكون إطاراً له وللعالم.

 

إنها”منظومة أحكام” موروثة اكتسبت، بفعل التقادم والتعميم لدى قطاعات اجتماعية واسعة، قداسةً ما، أو ما يشبه القداسة. اكتسبَت مناعةً وحَصانةً لا لأمرٍ سوى أننا أخرجناها من دائرة التساؤل الابتدائي، وأبقيناها بعيدةً عن الفحص المتعقل، وارتضينا بها “دليلَ استخدام/ كاتالوغ” نلجأ إليها كلّما ووجهنا بمسألة تحتاج إعمالاً للعقل، لا للذاكرة المحترفة اختزال التاريخ والحاضر والبَشَر بمجموعة محفوظات نستلّها من أرشيف الأفكار المسبقة والصور النمطية. وهكذا نتحوّل إلى مجرد كائنات تستلف من السَّلَف (غير الصالح بالضرورة) خلاصة تجاربه ورؤاه عن زمنه (وإنها لخلاصة ينبغي أن تخضع للمراجعة والتفكيك بدورها)، متغافلين أو متعامين عن تجاربنا نحن ورؤيتنا لزماننا وقضاياه. نتحوّل إلى كائنات تجولُ المتاحفَ لتتنفس غبار الغابر، وتجوسُ المقابرَ لتقتاتَ لحمَ موتاها. كائنات تتحرك خارج زمانها ومكانها. أي: تتحرك في لا زمانها ولا مكانها!

 

ألسنا، والحالة هذه، نقاربُ كائنات لم تتكوّن بعد؟

ألسنا، إذا ما واصلنا نهجنا هذا، إنما نتخذ من وجوه رجال ماضينا الملتبس أقنعةً نلصقها بوجوه أطفالنا، فلا يكونون هُم بقدر ما يتناسخون أشباهاً ناقصة ينسخون أشباهاً أقلّ.. إلى ما لا نهاية؟

*   *   *

 

يتمثّل التكوين، كما أفهمه، في مبدأ فلسفيّ حيويّ عِمادُهُ “الصيرورة” الناتجة عن كيف نواجه الحياة بمشكلاتها المختلفة وقد تسلَّحَ الواحدُ منّا بأمرين لا يقبلان الفصل: التفكير، والحريّة. ونحن، إذا ما أردنا الجمع الناجح الذي يمنحنا المعنى الفاعل لهاتين الكلمتين، فلسوف نخرج بـ"التفكير الحُر/ حُريّة التفكير".

 

بمعزلٍ عن التفكير الحر (أي الناقد المستريب) للكائن الإنساني- الاجتماعي بمجريات زمانه، واتخاذه موقفاً شخصيّاً خاصّاً منها؛ لا يكون للصيرورة البشريّة الفرديّة معناها العميق – إذ تخون طبيعتها الأولى لتنحطَّ إلى درك الزواحف. كما تُضرب عملية التكوين المتدرجة التلقائية، بحسب التجارب المارّة بالكائن وتفاعله الحر لتنتج، بالتالي، كينونةً مرتبكةً شوهاء، أو صَمَّاء مصمتة تُقاد إلى حيث يشاء غيرها. تُقاد إلى مصير لم تكن هي صاحبة الاختيار، المفكَّر به والحر، في رسمه!

 

إذَن: لماذا الاحتجاجات الموسمية على زماننا العربي “الرديء” وناسه، والنَّدْب سريع الذوبان لحاضرنا الدموي البائس، ما دمنا راضين بالأفكار المُسبقة لأسلافنا من دون تمحيص، وخاضعين للصور النمطية الراسخة التي لم نَخُضْ تجارب استخلاصها بأنفسنا؟

*   *   *

 

لا مخلوقَ يضاهي كينونة الكائن الإنسانيّ في تشكّل وعيه على نفسه، وعلى العالم، وعلى نفسه في العالم. والسِّر الإلهي في هذا التفرد مكنونٌ، بحسب اجتهادي، في طبيعة الجبلة الأولى حين أمرَ الخالقُ الخَلْقَ بـ”كُنْ”.. فكانَ. كانَ الإنسانُ حُرَّاً في اختياره، مسؤولاً عن نواتج أفعاله، صادراً فيها عن عقلٍ يتفكَّر.

 

وحين يُفَعَّل العقل كما ينبغي لوظيفته أن تكون، تتحوَّل طاقته لتشهدَ له على حريته.

أوليس هذا في ذاته تكوينٌ متجدد كلّما ووجهنا بمسألة تحتاج إعمالاً للعقل؟ أي: تفعيلاً للحرية؟

*   *   *

 

هذا ما سنحاول ممارسته بالكتابة في هذا الحيِّز الذي يبدو ضيقاً؛ لكنه أكثر من واسع حين تتوالى حالات التفكُّر بما سـ”تقوله” الكتابات القادمة. كتابات مجموعة كتّاب وكاتبات اختارت العقلَ أداة حَفْرٍ في الحياة، والحريّة وسيلةً وغاية معاً.

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.