تفريغ الشارع من مضمونه
الإصرار على تفريغ الشارع تماما من الحراك الشعبي ومحاصرة حق الناس في التعبير والتجمع، يعد بطريقة أو أخرى محاولة لمحاصرة الإصلاح والحد من الزخم السياسي المؤيد له بقوة. في المقابل، فإن الإصرار من الناحية الأخرى على خلق حالة من الزحام الدائم في الشارع الأردني كل جمعة بمناسبة ومن دون مناسبة، وبأشكال مقنعة وأخرى غير مقنعة تماما؛ هذا الإصرار يفرغ الشارع من مضمونه، ويفقده أهم مقوم له والمتمثل في العمق والصدق المجتمعي.
توجد خطوط تماس حساسة بين الشارع المسؤول الذي يتحمل مسؤولية اللحظة التاريخية ويحترم إنجازاته وخبراته، وبين الشارع المندفع والرخو ذي القابلية للتوظيف وأن يتحول إلى موضوع للصراع بدل أن يقود الحراك الشعبي ويحدد مساراته. وكما حدث في أكثر من مكان في العالم، هناك احتمالية كبيرة أن تنزل أي قوة وتغتال الشارع، وفي لحظة ما قد يتم احتلال جانب من الشارع من قبل الفساد حينما تشعر هذه القوة أن الشارع قد حاصرها وضيق الخناق عليها، فيلجأ رموز الفساد إلى ركوب الموجة من أجل خلط الأوراق، في محاولة لإيجاد مهرب أو منطقة رخوة لإعادة صياغة المشهد؛ حدث ذلك في دول أوروبا الشرقية في التسعينيات ومؤخرا في مصر حينما حاول رجال أعمال وقوى سياسية متحالفة مع الفساد الدخول على خط الشارع.
الجانب الآخر يبدو في الحاجة إلى التخلص من أمراض الشارع التقليدية، وأهمها التشاوف ومحاولة التقليد والحيوية التي تتحول إلى وقود لقضايا أخرى، بينما تفتقد خيوط قضية الشارع الحقيقية، ما يعني فقدان العمق المجتمعي لحركة الشارع، ثم يوفر بيئة لفقدان ثقة الناس بالحركات الاحتجاجية. لا يمكن أن تثمر هذه الحركات من دون رأس مال اجتماعي ثري ومتنوع وعميق، وهذا تحد حقيقي أمام مستقبل حركة الشارع العربي بشكل عام.
الأردن دخل عمليا عملية إصلاحية جادة ما تزال محفوفة بالمخاطر واحتمالات الانتكاس، ولأن هذه العملية تبنى على تراث إصلاحي يمتد على طول عمر الدولة، فإنها تحتاج إلى صبر الشارع ومتابعته الجادة، وهنا الحساسية الفائقة بين قوى سياسية تحاول أن تسجل أهدافا في لحظة غاية في الحساسية يفترض أنها ستقود إلى تغيير جوانب من قواعد اللعبة السياسية التقليدية، وبين الحاجة المجتمعية لمتابعة العملية الإصلاحية بحذر ومن دون تشويش، ما يعني عدم عدالة لعبة السيطرة على الشارع من المنظور السياسي الديمقراطي الذي يقتضي احترام رغبة الأغلبية في أن تتابع بهدوء مسار التحولات التي شرعت في صياغتها معظم القوى السياسية والاجتماعية بأدوات الحوار.
إن تفريغ الشارع من مضمونه في الحالة الأردنية الراهنة، مرة على طريقة "كبسة الزر" ومرة أخرى على طريقة "يوم الجمعة"، لن يخدم الإصلاح ولن يحمي الدولة الأردنية وحقها في حجز مقعد في مستقبل الشرق الأوسط الديمقراطي الذي يتشكل في هذا الوقت بسرعة تفوق توقعاتنا.
الشارع رصيد للجميع، والإفراط في استخدامه والصراع حوله يفقده قدراته الحقيقية، ويجعله مجرد جزر رخوة يستثمر فيها من يشاء، أو قد يتعبه ويفقده الثقة بنفسه. يحدث ذلك دائما حينما تعجز القوى المحركة عن توفير حد معقول من الصياغة التاريخية لقضية الشارع؛ ولدينا خبرة عمرها أكثر من خمسة عقود من صمت الشارع العربي وفقدانه للوزن والقدرة على الحركة.
الشارع يبقى ذخيرة غالية لا تفرطوا بها بسهولة.
الغد