تسليع، فتسويق، فانحدار

تسليع، فتسويق، فانحدار
الرابط المختصر

 

 

 

كلّ شيء في حياتنا المعاصرة أصبح الآن مادة صالحة للتسويق. والتسويق، في حدّ ذاته، يمكن أن يُدرج في أكثر من خانة، غير أنّ الخانة الأكبر تتمثّل في فن الإقناع. الإقناع عبر الحوار المباشر الإنساني وجهاً لوجه، والذي تحاوله الوحدات المتجوّلة من مندوبي الشركات، ذكوراً وإناثاً، وعلى رأسها وأكثرها عَراقةً شركات التأمين. وغالباً ما تتم تلك "الزيارات الإقناعية" على نحوٍ اقتحامي لمكتبك، فجأة من دون موعد مسبق متفق عليه! ودائماً هنالك ما يبيعونه من "بوالص": التأمين على الحياة، التأمين الصِحي، التأمين ضد الحوادث - كالحرائق مثلاً، التأمين على الأسنان، إلخ.

 

ولغاية التوفير، ربما، قامت شركات جديدة متعددة "السِلَع" بتغيير أساليب حملاتها على المواطنين؛ فبدلاً من الزيارات المباشرة تحوّلت إلى الاتصال الصوتي! فجأة تأتيكَ مكالمة من رقم مجهول على هاتفك الجَوّال، وقبل أن تستوعب الجملة الأولى، بعد أن تجيب بـنعم مؤكداً على أنك حامل الاسم الدال عليك؛ ينهمر على أذنك شلّال متصل من كلام لا تنتسب كلماته لأي لغة مفهومة إلّا بالحدس والتخمين والافتراض، لا تفقه منه سوى أنك مواطن مطالَب بالموافقة على عرضٍ غامض رغم أنه بحاجة لإيضاحات قد تستغرق ساعات! ولأنكَ تعتبر نفسك من الحريصين على تحديد موقفهم بـ"لا أو نعم" من جميع الأمور بعد استيفاء كامل المعلومات؛ ترجو صاحبةَ الصوت على الطرف الآخر، مندوبة المبيعات، أن ترسل العرض مفصلاً على بريدك الالكتروني للاطلاع المتأني. لكنّ ذاك الصوت لا يمهلك أيّ وقت، فأنتَ واحد من عشرات الأسماء الواردة في القائمة لهذا اليوم، فإما أن تقبل أو ترفض.. والسلام! وفي كثير من المرّات تنهي المندوبة مكالمتها، إذا ما تَمَنعْتَ وحاولتَ الفهم، بلا سلام أو بـ"شكراً" ذات نبرة عصبية.. قرفانة!

 

وهكذا انحدر فن الإقناع الإنساني المباشر، ليصبحَ صوتاً لا تعرف وجه واسم ومكان صاحبه أو صاحبته. مجرد صوت يكاد يقترب حدّ التماسّ من الأصوات المُسَجَلَّة ذات الوقع المعدني، المكرر بلا روح أو خصوصية، وبوتيرة الآلة بلا كلل أو ملل! وإني أتساءل، حيال كلّ ملابسات ما سبق: أيّ إقناع يؤمَل تحقيقه من خلال هذا "التسويق"! وجوابي يتلخص في أنّ هكذا طريقة كانت ناجحة جداً في إقناعي بأني مجرد اسم ورقم هاتف لمستهلكِ "سلعة" هو ليس بحاجة إليها.

 

واستتباعاً لابتكارات التسويق الحديثة المتجهة مباشرة إليك؛ هنالك الـ SMS، الرسائل التي يكتظ بها هاتفك الجوّال، والتي تقرأ من خلالها الأعاجيب الخارجة عن كل التوقعات. رسائل تضطر، أنت نفسك، للتشكك في حقيقة وجودك في بلد يُدعى الأردن، ومدينة اسمها عمّان، وزمن باتَ المواطن فيه على غير ثقة بأنّ غده ليس أسوأ من أمسه ويومه! ولسوف أورد بعضاً من تلك الرسائل المتدفقة عليّ وعليك، وبلا موافقة مسبقة مُنحت لشركة الاتصالات التابع هاتفي وهاتفك لها، وذلك للتمثيل على مدى الانحدار في التسويق. انحدار راهنَ أصحابه على أننا بلغنا من السخف والتفاهة درجة القبول بما يلي:

* للإعجاب علامات وللوقوع بالحبّ إشارات. اكتشفْ سرها في لغة الجسد! رد واشترك...

* بطاقة الحبّ والرومانسية هي الطريق الأسهل لقلب مَن تحبّ! رد واشترك...

* احصل على أرقّ عبارات وأبيات تسرق قلب الحبيب! رد واشترك...

* اكتشف أسرار النساء وتعرّف على كل ما هو جديد في عالم النساء!

* بس للبنات. أرسلي إلى .... وتألقي الآن!

كان هذا بخصوص "العواطف" وإثارة الجوانب المكبوتة في حياة الشباب الافتراضية. لكنّ الأدهى هو في تلك الرسائل المدروسة جيداً، المتقصدة مخاطبة الوجدان الديني، ابتغاء حض المستقبل على الاشتراك والدفع التدريجي. وهاك بعض الأمثلة:

* مجاناً لأسبوع استقبلْ صور الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. أرسلْ...

* أدعية وتلاوة قرآن تخشع لها القلوب بصوت أشهر الشيوخ. أرسلْ...

* من روائع عائض القرني اخترنا ما ينير دربك. أرسلْ...

* ضاعِفْ حسناتك في أشهر الخير مع باقة قطرات الإيمان. أرسلْ..

 

هذا غيض من فيض، وكلّه لا يخرج عن منطق التسويق الحديث. فكما يجوز العمل على تسويق السِلَع الاستهلاكية، أصبح جائزاً تسليع الإيمان الديني بتسويق "مواد" لا أحد بمقدوره معرفة مدى مصداقيتها، ومَن هي الجهات الموثوقة التي أخذت على عاتقها توفيرها لـ"المستهلك"!

 

وإذا ما تأملنا مجموعة ما ورد هنا، وما يعرفه الكثيرون ممن يتلقون هذه الرسائل وأشباهها (وهي كثيرة)، فإننا سرعان ما نجد أنّ الجهة التي تسوِّق طرق الحبّ والعواطف وأسرار النساء، هي نفسها التي تسوِّق "المواد" الدينية – كما تبدو في ظاهرها. وبالتالي فإنّ البُعد التجاريّ أكثر من واضح في كيفية النظر إلى أمور الحياة. وللتجارة ضروب وابتكارات، وجميعها تسوِّغ لنفسها تسليع كلّ شيء.. بما في ذلك الإنسان وما يحمل من وجدان وتفكير!

 

فأنْ تخاطبنا تلك الرسائل على هذا النحو، ومن قبلها "عجقة" مهاتفات مندوبة المبيعات، لدليل على أننا تحوّلنا إلى شيْ أيضاً. إلى سلعة بأكثر من معنى!

 

إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

أضف تعليقك