تدهور طارئ!

تدهور طارئ!
الرابط المختصر

من الملاحظ أن صلة مجتمعاتنا بالثقافة الإبداعية في تدهورٍ؛ ففي الوقت الذي يجري فيه تحييد صنف الإبداع، وإزاحته من العملية الاقتصادية، إلى هامش المبادرة الفردية الضيق، يتم في المقابل تحويل بعضه إلى مهنٍ تجاريةٍ بحتةٍ تقدم خدمات مباشرة لـ"مجتمع المال"، بحيث بات الأكثر منطقيةً رؤية فنان تشكيلي يتحول همّه إلى اختيار ألوان واكسسوارات مكاتب المدراء والمسؤولين وبيوت الأثرياء، وليس في مرسمه أو في قاعات العرض.

هناك بالإضافة إلى ذلك طغيان المهن التجارية، التي تستفيد من ألوان الفنون والإبداع على الإبداع نفسه. وهنا يجري الحديث عن أشكال الدعاية والإعلان ومختلف أنواع الطباعة والنشر الترويجي وإدارة أماكن الترفيه الليلية؛ ويمكننا أن نلاحظ هنا أن علامة النجاح لدى الكثير من المطربين هي امتلاك نادٍ ليلي، أو مطعمٍ من هذا القبيل.

وفي السياق نفسه، كانت معرفة اللغات الأجنبية تجد "مسكنها" الطبيعي في النشر الصحفي والثقافي، وتحفز مجيديها على استخدامها في الاطلاع على العالم وثقافته ومستجداته في السياسة والاقتصاد والثقافة، بينما أضحت هذه اللغات بالنسبة لمجيديها اليوم مجرد أداة لتحقيق نوع من التمايز الاجتماعي، بكل ما في ذلك من اعتداء على الثقافة واللغة الأم، من خلال تنحيتها من تعاملاتهم اليومية سواء في السلوك أو حتى مجرد التخاطب.

ويمكن التوقف عند "ثورة وسائل الإعلام الحديثة"، ومنها محطات التلفزة على وجه الخصوص، لا سيما بعد تحول الأموال العربية للاستثمار فيها على نطاق واسع. لقد قادت في طريقها إلى تدجين المجتمعات وتحويلها إلى كتلٍ استهلاكيةٍ ذات حاجاتٍ "منمطة"؛ وهكذا تصبح الأغنية الرائجة (المفروضة بوسائل الإغراق في الواقع)، هي لا الشعر، ديوان العرب؛ بينما تنتحر الرواية في عزلتها ويصبح المسلسل التلفزيوني سيد الموقف.

هنا، تغدو ربات البيوت والمراهقون المستهلك الحاسم لـ"الإنتاج الثقافي"، والذين "يفروضون" بذلك حاجاتهم في التسلية ما بين وجبة "طبيخ" و"دورة" غسيل، أو نوازعهم التي تحركها الهرمونات وليس حاجات التعليم والمعرفة.

لا زلنا نشاهد، بالطبع، مبادراتٍ ثقافيةٍ فرديةٍ أو شبه جماعية مستقلة. ولكن هذه المبادرات، التي تحاول أن تستفيد من إمكانيات تمويلٍ محدودةٍ، تتورط في تبني نزعات "تجديدية" مصطنعة، لم تسفر عن شيء سوى محاولة "التجديد" البائسة ومحدودة الخيال من خلال مزج الألوان والأنواع الفنية، على نحو مشاريع مزج النص الروائي بالصورة بفذلكات أخرى، أو محاولة تلفيقية "جهنمية" ما بين الفن التشكيلي والموسيقى، وخلاف ذلك.

 

باختصار، إفلاس عميم، وفقر إبداعي مدقع!

والسؤال المقلق هنا، إذا كان الأفق مسدوداً فعلاً أمام إسهامات حقيقية تعيد طرح الإبداع من جديد، وتربط حاجات التغيير بالعلم والثقافة، لا بالتلفيق الذي يلبي حاجات الأموال غير الشرعية التي تسيطر على المجتمعات، فلماذا يقبل هذا العدد من الناس على مزاولة صنوف الإبداع التي يجري خنقها في زاويةٍ ضيقةٍ: أهو الأمل الواهم بأن ما يحصل هو مجرد تدهور طارئ، أم الثقة بإمكانية تحرر المجتمعات من هيمنة المال الذي يفيض من تجارة المخدرات وأنشطة الجريمة الأخرى المزدهرة في عالم اليوم، مثل تجارة الرقيق والدعارة، والاتجار في الأعضاء البشرية والاتجار غير المشروع بالأسلحة، والابتزاز، والتجارة السرية بالمواد الخطرة المشعة وغيرها من الأموال القذرة التي يجري غسلها وتدويرها..؟

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.