تحت السقف الروسي
تأْمُل الاتفاق النووي يعيد التذكير بكلام بوتين قبل أكثر من عامين في مدينة المآتا، في كازاخستان، ويدفع المرء إلى التفكير بكل ذلك الوقت الذي أضاعه الإيرانيون والأميركيون للقبول، في نهاية الأمر، بالاتفاق الذي تحددت بنوده الروسية مبكراً.
الاتفاق نفسه يقود كذلك إلى التفكير بحيثيات أكثر خطورة، على رأسها، حجم ما باتت روسيا تستطيع فرضه في عالم اليوم، وكيف وعلى من تستطيع فرضه. وهذا يقودنا تلقائياً، إلى الملف السوري، ومقدار ما تستطيع موسكو فرضه على دمشق والرياض، وقد باتت الثانية، كما الأولى، متاحة وفق الأجندة الروسية.
من يفكر في هذه المعادلة عليه أن ينطلق من التفكير بعلاقات ثنائية وثيقة بين موسكو والرياض، لا من «االملف السوري»؛ بمعنى أن «الملف» نفسه سيتم توضيبه بما يتناسب مع هذه العلاقات، في تحوّل نوعي ينهي عهد توضيب علاقات موسكو بالرياض على أساس المواقف من «االملف السوري». وفي هذا، تكون دمشق خسرت كامل امتيازاتها الجيو سياسية، مقابل ثقل السعودية الجيو استراتيجي.
وفي الواقع، فإن معادلات الربح والخسارة هنا، التي يجب أن يلاحظها المراقبون، تفوق ذلك، ولا تشمل مكاسب عربية لأي طرف، وتعيدنا إلى تذكر معادلة الانتقال من الرياض التي كانت تحاول تقريع موسكو، إلى الرياض التي تقر بجلّ الاعتبارات الروسية؛ الرياض التي باتت ترمي في سلة موسكو أغلب الأوراق التي كانت تخص بها واشنطن.
ومن الواضح أن الكسب «الإستراتيجي» الروسي، لا يزعج واشنطن إلى درجة اعتباره خساره، بينما الخسارة العربية على الجانبين، السوري والسعودي، تبدو متوافقة مع الحدود التي تريد الولايات المتحدة رؤية البلدين في إطارها، وتبدو مرتاحة للتخلص من ثمن غياب التوافق في المصالح المباشرة في سوق النفط، على قاعدة ضم حاجات الولايات المتحدة إلى ملف العلاقات الروسية الأميركية، تحت بند المقايضة.
وفي سوريا، ربما يجدر التذكير أن «أبو علي بوتين»، لقب الرئيس الروسي ضمن أوساط سورية، لا يهتم بـ«علي» نفسه، ومنطقه أن «علي» يفترض أن يكون رجلاً وقادراً على تدبير نفسه، وهو علاوة على ذلك يرى أنه ابن غير شرعي ولا التزامات قانونية تجاهه. لكن العواطف والمصالح تقود إلى الاهتمام بـ«أم علي»، وهنا قد يجد الابن نقاط أهمية يكتسبها.
وهذه للآن، أركان المعادلة ماعدا مصر. مصر، التي هي في المرحلة المقبلة يمكنها أن تغير كل شيء، لكن لا يمكن إغفال أن السعودية حجزت مسبقاً موقعها إلى جوار القاهرة، وربطت نفسها بها بالسلاسل والقيود، مسبقاً.
في حرب النفط الطويلة على الياسمين، انتهى الموقف إلى تسوية أعادت إلينا الوعي أن الياسمين نفسه كان غائباً من الأساس، ولم يحضر الحرب في بلاده أساساً، وأن الازدحام الشامي ما زال يتراجع في الأهمية أمام الفراغ الخليجي. وهذه المرة، علينا أن نفكر بحجم الأخطاء الكبيرة التي رافقت المأثرة الكبيرة في صد أكثر العدوانات شراً.
علينا من اليوم أن نقرأ السقف الروسي، لأننا سنكون، وكل أفعالنا، تحته، ونحتكم لمنطقه؛ بدءاً من السيادة التي تظلل النخب الحاكمة، وليس انتهاء بفكرة المقاومة وشرعية تحررها من السياسة اليومية!
وفي هذا السياق، على العين الأردنية أن تضع كل هذه الحيثيات لدى تحليل دواعي محاولة التواؤم الإسرائيلية، المترجمة باقتراح رئيس كيان الاحتلال بفيدرالية مع الفلسطينيين. وعلينا الانتباه أن أحدا ما ينبهنا إلى أن الخطر على بلادنا لا ينبع من الفلسطينيين في الأردن بل من الكيان الصهيوني نفسه، ومن حماقات بعض "المنظّرين" التي تجرنا إلى فتح جبهة داخلية تضرب بالمجتمع، ومن أخطاء حلفائهم في معاركهم الإقليمية.
ليس ختاماً أن «السقف الروسي» يعيد التذكير بـ«السقف الأميركي»، وهذا ينبهنا أن خطورة الأول في إلزامه جميع الأطراف بما فيها تلك التي كانت متحررة من الالتزام بالسقف الثاني، سواء كانت دولاً أو جماعات. وأن هذا السقف يرث منظومة متكاملة من التسويات الدولية التي يشدد عليها، وعلى رأسها «أوسلو» و«وادي عربة» ومبادرة السلام العربية، بما يتعلق ببلادنا، ولا يتجاوزها مطلقاً.
- ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.