بين "القيمة" و"القِيَـم" علاقة تبادلية

بين "القيمة" و"القِيَـم" علاقة تبادلية
الرابط المختصر

دون أن نماهي أو نجامل، ولكي نتطرق للمراد طرحه ومساءلة الظروف الموضوعية التي أدّت إلى خلقه؛ علينا الإقرار، بدايةً، بأننا مجتمعٌ يعيش انتكاسةً عامة تطال أكثر عناصره حيويةً وأهمية.. ألْا وهو الإنسان. وإذا أردنا تكثيف معنى الإنسان في جملة قصيرة؛ فلن نجد أفضل من: "الإنسانُ قيمة." الإنسان الفرد قيمة في ذاته كوجودٍ كائن ينفعل ويفعل، يستجيب ويجيب، يستقبل ويُرسل ليس وفقاً لِمْا تُمليه الظروف وحسب؛ بل بحسب ما يختزن في داخله من قِيَم.

يمثِّلُ مخزونُ الفرد من قِيَمٍ اكتسبها عبر سنوات عمره، وخلال محطّات حياته المختلفة (تربوية، وتوجيهية، وضغوطات اجتماعية وإملاءات شتّى تصيبه بوعيٍ منه ودون وعي)؛ أقول: يمثِّلُ هذا المخزون من القِيَم مرشداً للإنسان الفرد في رسم مسلكياته حيال الآخرين. ليس هذا فقط؛ بل يعمل أيضاً على تشكيل رؤيته لنفسه، ولسواه من المختلفين عنه – بصرف النظر عن طبيعة هذا الاختلاف وماهيته -، إضافةً إلى أنه "المعيار" الذي بموجبه يمنحُ أحكام القيمة على ذاته، وعلىمَن/ ما هو ليس هو: إنساناً كان، أو مجتمعاً بعيداً، أو ديناً آخر، أو عادات وقِيَم مغايرة.

بناءً على ذلك؛ وبحسب ما يطرأ على العالم من أحداث وتحولات ذات علاقة بالمنطقة التي ينتمي إليها هذا الإنسان الفرد، سرعان ما نجده (بتأثير ذاك المخزون) يقوم بتقسيم العالم إلى معسكرين: أصدقاء وأعداء: نحن وهُم: معنا أو ضدنا: أخيار وأشرار: أصحاب الجنَّة وأصحاب النار، إلخ. فهل حقائق الحياة والتاريخ، في منطق صيرورتها، تحتمل هذا التقسيم الحاد، وكونه قانون يتسم بالثبات والتأبد والإطلاق؟

نحن إذَن بصدد جبلة ثقافية، بمعنى ما، تتفاعل مع كل مختلف عنها ومعها، سلباً وإيجاباً. وهذا واضح بائن. غير أنّ المتحرك تحت سطح الجبلة الثقافية، ولا يلتفت لهذه الحركه أصحاب تلك الثقافة بزعم أنها ثابتة وراسخة لا يطالها التغيير، هو ما أبتغي الإشارة لها. تغييرٌ نحا باتجاه الانتكاس، أو الأصحّ باتجاه الرِدَّة، إذا ما أجرينا مقارنات بسيطة لطبيعة تفاصيل الظاهر من حياتنا في تفاصيلها اليومية الآن، وعمّا كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة فقط!

وللتدليل على ما سبق؛ دعونا نلتفت ونتمعَّن في أقوالٍ وتصريحات مباشرة باتت تذهب مذهب الأمثال على ألسنة أبناء الأجيال التي سبقت الجيلين الأخيرين.

الناس البسطاء يقولون: "سقالله على أيام زمان! كان الواحد لا يعرف دين جاره ولا ينتبه إلّا أيام العيد. كنا كالأخوة يُعيِّد الواحد على الآخر، وحتّى كان المسيحي يعزم جاره المسلم على الإفطار في رمضان، وأحياناً يصوم معه."

أما فئة المثقفين، فغالباً ما اعتادت وصف الماضي القريب الذي عايشت تجلياته بأنه "ذاك الزمان الجميل!" "زمن أفلام الأبيض والأسود. أيام الفساتين الحَفْر والتنانير القصيرة. أيام براءة المشي في الشوارع باطمئنان وحِشمة النظرات."، ثم لا تلبث الفئتان، البسطاء والمثقفون، أن تتساءل كل واحدة، إنما بإدراكٍ كامل للجواب:

"ألم نكن متدينين نحن أيضاً! ألم تكن عائلاتنا على خُلِقٍ، وأمهاتنا وآبائنا على سوية أخلاقية، ومجتمعنا على تآلف ومحبَّة! فماذا حدث!"

إنها إشارات دالّة على تغيُّر كبير أصابَ مخزون القِيَم التي كانت مرشداً لنا وهادياً صوب سلامٍ اجتماعيّ، وتآلف دينيّ، وإذ بها (لحظة تغيّرها) تنقلب لتصبحَ ركيزةً لاضطرابٍ اجتماعيّ بلباسٍ يَدَّعي التديُّن، ويُعملُ في الناس تفرقةً وتمزيقاً.

بدأتُ رائياً إلى أنّ الإنسان الفرد هو "قيمةٌ" في ذاته. أما ما لم أقله بعد، وإثر الإشارات السالفة، هو أنّ هذه القيمة ليست ثابتة هي أيضاً. إنها قيمة يصيبها التغيير تساوقاً مع تغيير القِيَم الكائنة في أصحابها. إنها قيمةٌ تسمو بسمو ما تختزن من قِيَمٍ تفتحُ للإنسانية مجالاتها الرحبة– لا أن تخنقها داخل أُطر أضيق من الزنازين! ألَم نبدأ بـ"الإنسان الفرد"؟ وبذلك؛ فإنّ قيمة هذا الإنسان الفرد لا بُدّ أنْ تهبط وتَنْحَطّ كلّما تحللت مجموع قِيَمه. يتمّ ذلك كلّه ويحدث كل يوم، بل كل دقيقة، ضارباً الإنسان، ولكن دون أن يعي هو نفسه أنه إنما يتآكل كل يوم، وكل دقيقة.

 

·        إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.

 

أضف تعليقك