بانوراما الحرية....الرقابة من جديد

بانوراما الحرية....الرقابة من جديد
الرابط المختصر

على وقع التغيرات الدراماتيكيّة الحادثة من حولنا، والمتمركزة في بؤرة إطلاق الحريات للمواطن العربي، رأياً وتجمعاً وتفكيراً وجهراً قانونياً بالرأي الآخر، أراني أعود للتطرق إلى قانون المطبوعات والنشر ببعض التفصيل. وإنها لأجزاء في بانوراما عريضة تشمل طريقة حياة المجتمعات، في الوقت الذي تكشف فيه حيوية أو بلادة حالات التفكير فيها. ولعلّ مسألة الكيفيّة الرسميّة / الحكومية التي يتم التعامل بواسطتها مع الكتاب الورقي (الوعاء التقليدي لمخرجات التفكير) تشكّل واحدةً من أوجه هذه الحيوية، أو البلادة والتكلس.

* * *

الجهة الرسميّة المسؤولة عن مراقبة الكتب والنظر في أمر إجازتها أو منعها من التداول، وفقاً لقانون المطبوعات بكافة التعديلات التي جرت عليه، هي دائرة المطبوعات والنشر التي كانت ضمن وزارة الإعلام منذ تأسيسها، وباتت حتّى الحكومة ما قبل الأخيرة (حكومة البخيت) جزءاً من وزارة الثقافة، اسوةً بدائرة المكتبة الوطنية. غير أن الحال الآن يبدو غامضاً. فهل ستعود الدائرة تحت مظلّة الإعلام، أم تبقى ضمن انشغالات الثقافة، أم تستقلّ بذاتها؟

غير أننا، ولغاية إيضاح تفاصيل العملية التي تخضع لها الكتب، من حيث السماح أو المنع، ينبغي علينا التفريق بين عمليتين أساسيتين تشكلان معاً ما نسمّيها بـ"صناعة النشر"، وأقصد بذلك: الطباعة، والتوزيع.

فلكي نقوم بطباعة كتاب في الأردن، أي تحويل مادة المخطوط إلى كتاب ورقي، كان علينا (كناشرين ومؤلفين) عرضه على دائرة المطبوعات والنشر لقراءته من قِبَل أحد الرقباء داخل الدائرة، وانتظار قراره المبني على تلك القراءة الشخصية، والتي من المفترض أن تحدث آخذاً بالاعتبار بنود القانون. فإنْ لم يجد القارئ الرقيب، بحسب اجتهاده، ما يحول دون الموافقة منحَ الإذن بطباعته وتوزيعه داخل الأردن وخارجه. أما إذا رأى وجوب منعه، أيضاً بحسب اجتهاده، فمصير المخطوط ألاّ يصبح كتاباً! أي: باتَ ممنوعاً من الطباعة ومن التوزيع، بعبارة أدّق: بات ممنوعاً من النشر بالتالي.

لكنَّ تعديلاً جرى على هذا البند بحيث أُلغيت تلك الرقابة/ القراءة المسبقة للمخطوط، وسُمِح لصاحبه (الناشر والمؤلف) بطباعته، شريطة عرضه على الدائرة قبل توزيعه. وهكذا، كان أن تغيّر توقيت الرقابة دون إلغائها على الإطلاق؛ فبدلاً من أن تكون قبل الطباعة تحولت إلى ما بعدها. لذلك، يمكن لأي متابع ومدقق الاستنتاج بأنَّ التغيير الذي حدث كان تغييراً شكلياً دون المسّ بجوهر الرقابة، كأنما ليكون مطابقاً في صورته الخارجية لشعار "الحرية بلا سقف"! كما تضمن هذا التعديل إشكالاً جديداً؛ إذ حَمَّلَ الناشرَ مسؤولية الرقابة والقراءة بعين الرقيب الرسمي (الذي يتفاوت في درجة الوعي ونوعية الرؤية) من جهة، وأدّى إلى تعريضه لواحدةٍ من تبعات القراءة اللاحقة (بعد الطباعة) في حالة الاعتراض على الكتاب: إما التسليم بوجهة نظر الرقيب / الدائرة والامتناع عن توزيعه، وهذا يعني خسارة المال الذي أنفق على طباعته، أو القبول بأن تتحول المسألة إلى قضية أمام القضاء ترفعها الدائرة ضد كل من المؤلف، والناشر، والمطبعة أيضاً في بعض الحالات!

ما أريد قوله بعد هذا التفصيل، هو أنَّ بإمكان دائرة المطبوعات والنشر منع تداول الكتاب محلياً، والتحفظ على تصديره لتوزيعه في الخارج، ما دامت طباعته تمت داخل البلد، مما يعني الإبقاء عليه رهينةً أو سجين المخازن ـ لكنها لا تستطيع الحيلولة دون توزيعه في الخارج إذا ما تمت طباعته هناك (في لبنان مثلاً). فحدود سلطة الدائرة لا تتعدى حدود البلد السياسية. وهكذا تنحصر آليّة المنع ضمن حدود الداخل، وتظل أبواب البلدان الأخرى مفتوحةً، اللهم إلاّ إذا طرأت فيها مسائلٌ شبيهة.

هذه بعض النقاط الماسحة لكليّة الصورة. لكنَّ هنالكَ ما أجد ضرورةً للإشارة إليه، ألاْ وهو أن القانون الأردني يتيح لأي مواطن أردني الاعتراض على أي كتاب، مهما كان، والتقدم للقضاء بقضية ضده بحجة أنه "أساء لمشاعره الوطنية، أو لمعتقده الديني، أو لقيمه الاجتماعية، إلخ". وبذلك تتحوّل الرقابة إلى مجموعة رقابات، رسميّة وأهليّة، جماعية وشخصية، مما يقلب الأمر برمته ويلقي به إلى منطقة واسعة جداً عنوانها: الوعي الفردي، والوعي العام.

* * *

هنالك بنود غالباً ما تستند إليها دائرة المطبوعات والنشر في قراءتها للكتب، واتخاذ قرارها بناءً عليها، تتلخص في إشارات عموميّة ليست محل خلاف على الإطلاق؛ إذ تنصّ على عدم الإساءة أو التشهير أو التعريض بالأديان، والمبادئ العامة، والدستور، والأخلاق، والوطن، وهلم جرا. وهذه، كما نرى، لا مجال لأن نعترض عليها لأننا مع وجوبها. غير أنّ اعتراضنا إنما ينبع من صفتها المطاطيّة الكفيلة بالسؤال عن كيفيّة الاستنتاجات التي خرجَ بها الرقيب القارئ للنصوص، وخاصةً تلك الحَمّالة لأكثر من وجهٍ أو تفسير. فالتأويل أو التفسير المفتوح على أكثر من "اقتراح واحد"، والذي توفره النصوص الأدبية ذات العمق المعرفي والفني والطارحة لأسئلتها، يؤدي إلى خوف الرقيب وارتباكه؛ فهو غالباً لا يتحلّى بما يجعله غَوّاصاً جديراً بقراءة الأعماق. وفي مثل هذه الحالة، يكون من "الأسلم" له الاعتراض عليها بداعي درء التفسير الأسوأ!

ولقد اجهتني هذه الظاهرة كناشر أكثر من مرّة. وهنالك قضية ما تزال أمام القضاء منذ ما يزيد عن العام، وأفضّل ألاّ أتطرق إليها؛ فلقد باتت أكثر من مشاعة في أرجاء الوطن العربي وعلى المواقع الألكترونية. وأنا بطبعي لست ميّالاً لإثارة الغبار والزوابع، بقدر ما أصبو إلى طرح الأسئلة على الجهات الغافلة عن شبكات التواصل الاجتماعي الفالتة من السيطرة والتي، كما نرى هذه الأيام، أنها قادرة على نشر بياناتها وآرائها بمئات الآلاف إنْ لم يكن بالملايين، وتأثيرها إلى درجة إسقاط أنظمة بدت أنها في غاية التماسك والصلابة (تونس ومصر).

ونحن، إذا استعرضنا العدد الكبير للكتب التي طالها المنع على امتداد تاريخ دائرة المطبوعات والنشر، واطلعنا على محتوياتها، وهذا ليس متوفراً بدقة علمية؛ فإنَّ اجتهادي يقول بأنّ المنع خضع لـ"منطق" الحقبة العرفية وحصر الحريات، وكانت في غالبيتها ذات بُعد سياسي. وبالتالي، فإنها خضعت لمنطق ورؤية الدولة حينذاك.

من جهتي وبالمقابل مما سبق، أنا مع منطق ومبدأ إطلاق حريّة التعبير وصيانتها كنقطة ابتداء، ليس لأن الدستور ينصّ عليه صراحةً (وهذا في غاية الأهمية)؛ وإنما لأن هذه الحريّة تحديداً هي الامتحان لكرامة الإنسان المواطن في وطنه وعلامة عليها. إضافةً إلى كونها أحد وجوه ثقة الحكومات بنفسها ورسوخها بما يجعلها قادرة على احتمال الاختلاف والتعايش معه. وكذلك إلى وثوق الحكومات بوعي المواطنين وحرصهم على وطنهم وعدم التشكيك بذلك. فـ"منطق الحياة العميق" يشير إلى أنَّ مَعنانا البشري يكمن في تعددنا وتبايننا؛ فنحن لسنا المستنسخات عن أصلٍ واحد يتعالى علينا جميعاً!

وها أجدني أكرر ما كتبته مرّات ومرّات، وبما يفيد بأنَّ الرقيب القارئ ليس قَوّاماً أو وصياً على وعي المجتمع، مهما اتسعت معارفه أو تعمق وعيه. فهو، في بداية ونهاية الأمر، مجرد فرد يتحلّى بمستوى معيّن من الوعي والتحصيل المعرفي والتخصص النوعي لا يؤهلّه، دائماً وبالضرورة، للحكم على كتابات وأفكار الآخرين. فما بالك، وبحكم تسميته الوظيفيّة، يعملُ على أن يختار لنا ما نقرأ بحسبه، ويمنع عنا ما لا ينبغي لنا أن نقرأ ـ وبحسبه كذلك!

بناءً على ما سبق فإن الأزمة، كما أراها واضحةً، هي أزمة حضاريّة في الأساس، ومعرفيّة في الجوهر، ومفهوميّة على مستوى تداول الكتابة والوعي على أعماقها ـ تماماً مثلما نعي مسألة تداول السلطة. كما أنها، أيضاً وأيضاً، أزمة حريات طفقت تتراجع وتُكبَت مع الزحف الصاخب للجهل المستتر بظاهر الأديان وطقوسها (ولقد تواطأت السلطات في هذا، كما عاينا ذلك خلال ثورة الشباب المصري، إلى درجة الانزلاق نحو الفتنة من أجل التسيّد)، على حساب جوهرها الداعي للقبول بالآخر رغم اختلافه. وهذا كلّه يترافق، منطقياً وواقعياً وتاريخياً، مع انسحاب دولنا وعجزها عن أن تكون فاعلةً في التاريخ المعاصر ـ تاريخنا وتاريخ العالم من حولنا. فمن طبائع الأمور أن نجدَ الضعيفَ والمهزوم والجاهل (هي محمولات لموصوف واحد) يحسبُ أنه بمنع مَن يختلف عنه إنما يحمي نفسه؛ فيسارع إلى قمعه! كأنما بذلك يقمع الصوتَ الذي يذكّره بحقيقته!

لستُ مع بقاء أي هيئة تمارس وصايتها على وعي الناس، فتختار لهم ما ينبغي قراءته، وتلزم الكتّاب بما لا ينبغي عليهم كتابته. أما والحال هو هذا الحال؛ فأطالب بقراءة متخصصة من ذوي الاختصاص. فالأدب لا يُحاسَب من قبل رجال الدين (أي دين)، كما لا يُقرأ تاريخ الأديان من قبلهم أيضاً. فالأول تتم قراءته من قبل أدباء ونقّاد ودارسي أدب، والثاني يُحال على متخصصين بالتاريخ؛ إذ ليس من دين كان أن ولد خارج سياقه التاريخي واشتراطاته الكليّة. والأمر نفسه ينطبق على كافة المجالات الأخرى.

أما إذا استحال أمر إلغاء الرقابة على الكتب والمنشورات (وهذا هو الأسوأ في إطار طموحنا الداعي للتغيير والديمقراطية)، فإني أطالب بالتخصص. فما عاد هنالك، في العالم كلّه، مَن يَدّعي هذه المعرفة الموسوعيّة. فكفانا تبجحاً بمعارف ليست في حوزتنا.