باريس، و"الحدائق الخلفية"
بعد انتحاره بثلاث سنوات، وفي العام 1964، نُشرت للروائي الأميركي إرنست همنغواي رواية عن باريس التي عرفها إبان إقامته فيها النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، بعنوان: "حفلة متنقلة A Moveable Feast" – تترجم أيضاً "عيد متنقل". باريس حين كانت غاية فناني وكتّاب ومثقفي العالم، المدينة الحاضنة لشتّى المشاريع الإبداعية، والبيئة المتفاعلة مع الجديد المتفتق عن مخيلات قد لا تستسيغها، غالباً، مجتمعات عدد كبير من هؤلاء المبدعين الوافدين إليها: الفنان الإسباني الأسطورة بابلو بيكاسو، والمكسيكي دييغو ريفييرا، والإيطالي أماديو مودلياني، والأميركيان أزرا باوند وهنري ميللر، والإيرلنديان جيمس جويس وصموئيل بيكيت وسواهم كُثْر. باريس المدينة التي أنارت لاثنين من روّاد النهضة العربية دروب الانعتاق من قوالب التفكير عندما أقاما فيها أوائل القرن العشرين: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ثم تبعهما طه حسين. دون أن ننسى من العرب المعاصرين، على سبيل المثال: المفكّر المصري سمير أمين، والكاتب اللبناني أمين معلوف، والشاعر السوري أدونيس، وكذا الناقد السوري بطرس حلّاق والناقد صبحي حديدي، والمغربي الطاهر بن جلون، والجزائري رشيد بو جدرة، ومن العراقيين عالية ممدوح، وكاظم جهاد، والقائمة تطول. أما إذا حاولنا الإلمام بالعدد الكبير ممن لجؤوا إليها من المبدعين والمثقفين العرب، خلال السنوات العشر الأخيرة وحدها، بسبب الأزمات الخانقة والتدمير الممنهج في بلدانهم، فلن تكون مهمة سهلة. ولهذا، يصبح أمر تمركز ونهوض "معهد العالم العربي" في باريس محصلة منطقية وتاريخية وحياتية في آن.
باختصار: باريس مدينة الحرية والتنوير، ما يعني عاصمة الجَمال حين يتجلّى احتراماً للإنسان المبدع وتقديراً لعطائه، وتوفيراً الفرصة له والملاذ، بصرف النظر عن كونه "أجنبياً." أي أنها "محط الأنظار".
بالنسبة لهمنغواي، شكلّت باريس حفلة أفراح، أو عيداً للمسرّات بالمعنى الجمالي الثقافي الملوِّن للحياة التي عاشها هناك. وللآخرين، من الشرق والغرب، كانت فضاءً رحباً لإطلاق طاقات العقل المتحرر من قيود التقاليد. ونحن، إذا ما راجعنا سيرة المئات من أعلام الفكر والأدب والفنون من غير الفرنسيين عبر قرنين، سنجد باريس احتلت مكانة رئيسة في مسيرتهم، أو تجاوزت كونها مجرد محطة توقفوا فيها دون أن تترك فيهمآثاراً عميقة. ولعلّ البعض مِن حشد مَن جاء إليها طارئاً، بات، مع الوقت، مواطناً باريسياً بامتياز، حتّى وإنْ لم يحمل الجنسية الفرنسية في وثائق رسمية.
إنها شذرات تتكثّف لديّ هذه اللحظات عن هذه المدينة، التي لم أزرها سوى مرة واحدة، وكانت خاطفة لم تتجاوز خمسة أيام! غير أنّها الذاكرة الجامعة لكلّ المنشغلين والمشتغلين بالشؤون الأدبية والفنية من المثقفين العرب. مَن عرفها حقاً، ومَن تعرّفها مِن خلال ما قرأ عنها، وعمّن كتب عن تأثيراتها فيه. وإني أرى أنّ المِثال الأقرب لباريس بوصفها فضاءً وملاذاً للساعين للحرية، من سياسيين وكتّاب ومفكرين ومنفيين وحالمين وباحثين عن التجربة بعيداً عن رقابات السلطات والمجتمع، على ضوء التجربة الثقافية العربية المعاصرة، هو بيروت. كانت بيروت باريس العرب، بهذه الأبعاد جميعاً، وبامتياز. لكنها، وإثر الاجتياح الصهيوني عام 1982 وما بعد، تراجعت كمثال، وخاصة أنّ عدداً لا يستهان به من مثقفيها غادروها! غادروها ليستقروا، نهائياً أو لمُددٍ قصيرة، في باريس!
بعد هذا المسح الخاطف لباريس وما تحمل من معانٍ ورموز، يصبح طبيعياً القول بأنها شكلت وما تزال "ذاكرة العالم الثقافية." وبالتالي، يصبح من البديهي أن "نفهم" وأن "نفسِّر"،على نحوٍ ما، لماذا استأثرت بهذا التركيز الاستثنائي على الهجمات الإجرامية التي تعرضت لها يوم الجمعة الثالث عشر من الشهر الحالي. استأثرت بهذا الاهتمام الإعلامي الواسع، والتغطية اليومية التفصيلية (ربما لم تماثلها في ذلك سوى نيويورك في 11 سبتمبر 2001) دون سواها من مدن وأماكن أخرى، إنْ في العراق وسوريا وتونس، أو لبنان وليبيا واليمن، أو نيجيريا ومالي والسودان، أو - وهذا هو الرقم الصعب: فلسطين؟
غير أنّ سؤالاً تبقى الإجابات عنه ملتبسة: لماذا ضحايانا نحن العرب، نتيجة إرهاب الدول وإرهاب الجماعات التكفيرية معاً، لا يُلتفت إليها من الإعلام العالمي؟ ألْا يسقط منا العشرات والعشرات يومياً، وكثيراً من الحالات المئات في هجمة واحدة؟ أوليست الضحايا، في مبتدأ الأمر ومنتهى معناه، هي البريئة المقتولة بلا ذنب، وبالخِسّة نفسها والجُبْن ذاته، بصرف النظر عن جنسياتها وأديانها وأوطانها وألوان بشراتها؟ أوليست، في حقيقة المصير الظالم، هي واحدة؟
تتعدد الإجابات، وكلّ إجابة تحمل جزءاً من الحقيقة.
دعونا نستعرض ما يمكننا من نقاط:
* الإعلام الراهن مُعَوْلَمٌ بهيمنة أميركية أوروبية، وبالتالي فإنه منحاز بالضرورة، بأجهزته الكبرى المحتلة فضاء البثّ، لقضايا تلك الدول وكما يراها هو - لا قضايانا، التي يقيسها بحسب مصالحه المحضة.
* نحن كنا، وما زلنا، نشكّلُ أطرافاً وهوامش لمراكز ومتون تتحكم بأحداث العالم. مراكز ومتون لا ترى سواها من العالم إلّا بوصفه "الحدائق الخلفية" لقصورها – وفق المفهوم الأميركي السائد. ما يعني أنّ ضحايا تلك "الحدائق الخلفية" والأزقة البائسة مجرد أرقام لا تضجبحيوات تتعذّب من البشر!
* تحوّلَ الموت اليومي إلى خَبَرٍ عاديّ، وعلى مدار سنوات وسنوات، وأصاب مئات الآلاف من الضحايا، وبقى محصوراً في "الحدائق الخلفية" حيث "تعايشَ وتكيّفَ وتأقلمَ" معه حُكّامُها وسُكّانُها معاً، حتى بدا وكأنه من لزوميات الحياة العربية!
* بعد ما يقارب قرن على حكم أنظمة مستبدة، عسكرية باطشة، وأمنية محطِّمة للكرامات والشرف، ومدنية زائفة، وفاسدة مرتشية وراشية متحالفة مع طبقة من "فقهاء التجهيل الدينيين"، ومرتهنة لقوى العالم المستعمر والامبريالي من ثَم، ومعادية لجوهر الحريات الفردية والجماعية، والتعامل مع المجتمع و"الوطن" بوصفهما مجالاً حيوياً لتوسيع استنزافها لهما، وكاذبة جهاراً نهاراً في دعاواها بالـ"ديمقراطية"..
بعد كلّ ذلك؛ ألْا يفقد الإنسان قيمته كإنسان؟ ألْا يتحوّل، في نظر تلك الأنظمة بكلّ مواصفاتها السابقة، إلى كائن بلا ثمن؟ إلى اسم، مجرد اسم كملايين الأسماء في جداول الإحصاء، ليس جديراً أنْ يُحدث موته قتلاً واغتيالاً، أو مصيره البائس، أيّ ردة فعل تثأر له أو تتضامن معه؟ ألْا يتحوّل المجتمع نفسه (وهنا يقبع الخطر الأكبر)، وقد اعتاد هذا النمط من "العيش"، لأن يتماهى مع نظامه، فتكون استجاباته لحظية خاطفة وسطحية، تبتلعها الأنانية وتُميتها الرتابة، وليس من أثَرٍ للانفعال سوى التباكي وإلقاء اللوم على "الغير"؟
فإذا كان إنساننا/ الضحية لا ثمن له داخل مجتمعه؛ هل يحقّ لنا، والحالة هذه، إدانة العالم حين لا يرى ضحايانا متساويين مع ضحاياه؟ فرغم الخطر المايزال ماثلاً في باريس، نجد الشعب الفرنسي يتجمع يومياً ليضيء الشموع وسط باقات الورد تكريماً لذكرى جميع الذين سقطوا قتلى، ويبكونهم مع أنهم لا يعرفونهم شخصياً! يبكون قتلى كان منهم مَن ليس فرنسياً! يبكون عشرين ضحية من "الأجانب" ممن سقطوا في مجزرة المسرح: جزائريبن ومغاربة مسلمين، ومكسيكيبن مسيحيين، وأناس من بلدان شتّى صدف وأن كانوا هناك ليعيشوا فرح الموسيقى وتحليقاتها!
هذا تضامن حقيقي، خالص، ولا يُفَرِّق. تضامن الشعوب بعيداً عن انحيازات حكوماتها وسياساتها التي أدّت إلى أن يكون منهم، هم أيضاً، جثثاً في أكياس سوداء إلى جوار أكياس أخرى تُحْزم داخلها جثث ضحايانا. تلك هي باريس، أناس باريس التي كتب عنها إرنست همنغواي رواية "باريس: حفلة، أو عيد متنقل"، المدينة التي تنهض لتحيا وتعيش أفراحاً تجددها بالحبّ، والفن، والموسيقى، والثقافة، والإصرار على المضي بما اختارته من طريقة عيش، والتضامن الإنساني: التضامن الذي لا يخضع للقياس، والتعاطف الذي ليست من طبيعته التمييز بين ضحية وضحية، أو بذله بالتقسيط والتجزئة، والتشارك دون إجراء الحسابات وفقاً للأكثر والأقلّ!
* * *
من وسط جمهرة واضعي باقات الورد ومشعلي الشموع، قالت امرأة فرنسية أنّ هذا هو وقت قراءة "عيد متنقل" لهمنغواي، الذي رأى باريس عيداً ممتداً وحفلة بهجة وحياة، وهكذا ينبغي أن تستمر. كانت المبيعات اليومية من الرواية في باريس عشراتالنُسَخ قبل الهجمات الدموية. بعد ذيوع قولة المرأة "المثقفة" وانتشارها على صفحات الفيس بوك، ارتفعت المبيعات إلى ألف وخمسمائة نسخة، ويومياً أيضاً. (*)
بعد 51 سنة على صدور الرواية، ها تعود لتُقرأ من جديد، من جيل جديد. جيل يعرف كيف يتضامن ويتعاطف، ويدرك أنّه إذا ما فقد أفراحه كما يرتئيها، إنما يكون قد فقد حريته التي اكتسبها بدمه ودماء أسلافه الذين عرفوا أين يسفكوها.. ولماذا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تراجع عدد النسخ المطبوعة من أيّ كتاب عربيّ من ثلاثة آلاف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى ألف نسخة أوائل هذا القرن، ليصل إلى خمسمائة في هذه "السنوات العِجاف"! ليغطّي حاجة ملايين القرّاء في الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج! ثم نتساءل عن "المساواة" وكأنها مجرد كلمة لا تتضمن آلاف المكنونات واجبة التوفر.
إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.