بأيّ ذنبٍ قُتِلَت!

بأيّ ذنبٍ قُتِلَت!
الرابط المختصر

في نشرة الـ "بي بي سي" الصباحية، وما تلاها خلال النهار، أورد المذيع خبرين متلازمين جاءا ضمن تداعيات مظاهرة باريس المليونية ردّاً على مقتل 11 صحفياً في جريدة شارلي إبدو المعروفة بسخريتها من الأديان، جميع الأديان، الناشرة لرسومات مسيئة للرسول.

الأول: رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يعترض على تصريح البابا فرانسيس، القائل بوجوب احترام مشاعر جميع المؤمنين وعدم العمل على خدشها، إلى جانب المحافظة على حرية التعبير، مرتكزاً في حجته (كاميرون) إلى أنّ القانون أوّلاً.

 

الثاني: غاضبون مسلمون في النيجر يهاجمون سبع كنائس ويحرقونها، على وقع رسومات تشارلي إبدو المسيئة للرسول، ويقتلون خمسة مسيحيين من بينهم وجدت جثتان متفحمتان داخل إحدى تلك الكنائس.

أذيعت هذه النشرة بعد ساعات من نشر مقال الأحد الماضي "قلب الحبّ الأحمر، أم جمجمة وعظمتان؟"، الذي قلتُ فيه (في ما أوردت من نقاط) أنّه ينبغي، إلى جانب المحافظة على حرية التعبير، أن تتصف الترجمة لهذه الحرية عند ممارستها بالوعي والمسؤولية. ترجمة يتحلّى صاحبها ببُعد نَظَرٍ وبصيرة يستطيع من خلالهما التنبؤ بردّات الفعل حيال "فعل الحرية" الذي يزمع ممارسته كحق مكتسَب. وأنّ هذا الحق المنصوص عليه في الدستور والمكفول بالقانون لا يكتسب معناه (سلباً وإيجاباً)، في تطبيقاته على أرض الواقع الاجتماعي، إلّا بما ينتج عنه، بصرف النظر عن المقاصد منه، أو النوايا، المعلّنة أو غير المُصرَّح بها. فالأعمال تُقاس بنتائجها لا بنوايا أصحابها، حتّى وإنْ استندت إلى الدساتير والقوانين.

في مقال الأحد الماضي أشرتُ، أيضاً، إلى أنّ موقف البابا كان تعبيراً عن "ضمير" حيّ لم يعد رؤساء العالم المتظاهرون في شوارع باريس يأبهون به، فوجب تذكيرهم به. ناهيك عن أن تورطهم في تنمية الإرهاب بتغذية تنظيماته المتطرفة بات أمراً لا يختلف في حقيقته سوى مكابر أو جاهل.

إذا كنتُ في مقالي السابق قد ركزتُ على اختلاف التأويلات والقراءات للمفاهيم المعولمة كـ(حرية + تعبير)، وفقاً لاختلاف الثقافات ورؤى شعوبها (ناهيك عن تضارب المصالح)، فإني أشرتُ تحديداً إلى أنّ تعبيراً ما مرتكزاً للقانون في حماية حرية صاحبه قد يؤدي إلى "خلق فتنة" داخل مجتمعات يعيش فيها أتباع ديانات مختلفة– وذلك ضمن سياق تفكّري بالرسومات وأصحابها. وها نحن، ولم تمض ساعات على تلك الإشارة، نشهد إحدى تلك الفِتَن القاتلة تشتعل في بلد ناءٍ عن باريس الأوروبية وسط إفريقيا يذهب ضحيتها بَشَرٌ أبرياء لا علاقة لهم، مباشرة أو غير مباشرة، بما حدث في قارّة أخرى! ولربما لم يكونوا (أو بعضهم) على علم أصلاً بما حدث هناك!

إنّ الأثمان التي تُدفَعُ بالنيابة، وقسراً، هي أرواح بريئة. بريئة تماماً، وصارخةً في سماوات الله وكأنها تسأل "بأيّ ذَنْبٍ قُتِلَت!"

لقد قُتِلَت، سيد ديفيد كاميرون، لا لشيء إلّا لارتكازك وأمثالك للقانون الذي جعلتم منه، من مفهومكم الجامد له والأُحاديّ، "معبوداً" مقدّساً تُزهَق من أجله روحُ الإنسان أضحيةً سرعان ما يطويها النسيان قبل أن يجفّ دمها المغدور. وتراني أسألك: ماذا سيقول "قانونك" إذا ما جاءك/ جاءه أولئك الضحايا يطالبون بإحقاق العدل والاقتصاص مِن المسبب الأول في مقتلهم؟ مِن ذاك الذي أثار الفتنة التي أشعلت بلدةً إفريقية (والمرجح تكرارها في أماكن وأصقاع أخرى)؟ ومِن هذا- الذي هو أنتَ - لم يرَ ضيراً ما دام القانون يبيح حرية التعبير.. دون شروط احترازية، أو قيود أخلاقية، أو حسابات تأخذ بالاعتبار أنّ العالم عوالم متعددة، وإنْ كانت العولمة عنوان هذا الوقت!

سيد ديفيد كاميرون:

يا لهذاالقانون/ الطوطم كم بات غارقاً في الدماء!

هل تراها؟

هل تسمعها تسأل بأي ذنبٍ سُفِحَت، وهل ثمّة قانون يحاسب الذين كانوا سبباً رئيساً في بناء هذا المذبح؟

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.