انهيار دولة المجتمع المدني

انهيار دولة المجتمع المدني
الرابط المختصر

 

 

ينظر البعض إلى الدولة السوفيتية من منظور أيديولوجي ضيق؛ إما يشترطون تجريدها من كل علاقة موضوعية مع الفكر الاشتراكي والماركسية ليعترفوا بخصوصيتها في محاولة تواؤم البشرية مع نفسها الإنسانية في التاريخ. أو أنهم، من الجهة المقابلة، يصرّون على أنها نهاية التاريخ والصراع بين القوى الاجتماعية في العالم، وعلامة قطعية على قيامة لا رجعة عنها.

 

في الواقع الموضوعي، الذي لا يسهل على ليراليي آخر الزمان (لا سيما العرب منهم) أن يستوعبوه، هو المعنى الفعلي (بل الثوري) للدولة السوفيتية، الذي تمثل في أمرين جوهريين: الأول، هو أنها مثّلت في التاريخ انتصاراً للمجتمع، وبالتالي للقيم المدنية، على الدولة. والثاني أنها كانت دولة الطبقة الوسطى الوحيدة في التاريخ. وهذا ينبّهنا إلى شرطين أساسيين يتعلّقان بمنظمات المجتمع المدني:

الأول؛ إن مصداقية هذه المنظمات تتعلّق بالدرجة الأولى والأخيرة بحصرية علاقتها مع المجتمعات، وانطلاقها من أسبابها.

الثاني؛ أن تمثّل الطبقة الوسطى في أفضل علاقاتها وارتباطها بالشرائح الدنيا في المجتمع، وليس العليا. الشرائح الدنيا هي الأوسع، وهي الأشد عوزاً للحقوق المدنية. وأن تكون منصة للتأثير على الدولة، وليس لصالحها أو في خدمتها.

 

وفي حالة خاصة، يمكننا أن نتذكر هنا منظمة "الصليب الأحمر"، التي ولدت في خضم ثقافة الحياد السويسري والإسكندنافي، لكن الحياد في التعامل مع الدم الانساني المهدور، أسهل على النفس البشرية من مقاومة الانحياز إلى المواقف السياسية أو الانتماءات الأيديولوجية والعرقية و.. إلخ. خصوصاً أننا نشهد اليوم توالد منظمات محلية مشابهة تستثمر في "التجارة السياسية".

 

من الشائع الجزم أن الدولة السوفيتية لم تكن من "محبي" منظمات المجتمع المدني، الذي هو في التعريف يضم مجموعة واسعة من "منظمات غير حكومية" و"منظمات غير ربحية" تنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. لكن التجربة السوفيتية، في سياقها المعروف، كانت تمثّل دولة مجتمع مدني. وكل الاعتراضات على هذا الرأي، هي اعتراضات على سجل أمني، ولا تتعلق أبداً بمسألة التمكين الاجتماعي والاقتصادي للأفراد والجماعات المحلية.

وهي على أية حال اعتراضات لها مثيل متزامن في أشد الدول مناصرة للمجتمع المدني.

 

لن أتحدث عن المكارثية في الولايات المتحدة، لكن يمكننا أن نستحضر قانون منع الكحول، الذي استمر في النفاذ منذ بداية العشرينات وحتى مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، ولم يكن قانوناً ينظّم السوق ويضبطها، لكنه كان في الواقع قانوناً خُلق قصداً وعن وعي السوق السوداء بذراعها المافيوي، ومثل قانون طوارئ يعتدي على الحريات والحقوق المدنية، ليس في مجال تعاطي الكحول، إنما في بقية الحقوق السياسية والمدنية، وأوجد الهامش لسيطرة المافيات على الشوارع في المدن الرئيسية، في عملية انتشار أمني (إجرامي) لتمكين أسوأ فساد سياسي من السيطرة على مؤسسات الدولة.

 

لهذا، على المرء أن يتذكر أن كارل ماركس اعتبر، في زمنه، أن المجتمع المدني هو ساحة الصراع الطبقي. وفي القرن العشرين طرح غرامشي مفهوم فكرة تضعنا في سياق دقيق، وتقول إن المجتمع المدني ليس ساحة للتنافس الاقتصادي، بل ساحة للتنافس الأيديولوجي.

 

وفي تمييز غرامشي بين الهيمنة الاقتصادية والهيمنة الأيديولوجية، نكتشف أننا مضطرين للقبول بأن أرسطو العتيق ناقش المسألة نفسها، فعرّف منظمات المجتمع المدني بأنها "جماعات سياسية خاضعة للقانون"، أي ليست مهيمنة، وليست لديها، في يديها، السلطة القانونية.

 

وهنا أهمية الدولة السوفيتية، التي كانت دولة العمال والفلاحين، التي تقودها الطبقة الوسطى المرتبطة بالشرائح الدنيا من المجتمع، ودولة المجتمع المدني رغم أن عمر هذه الدولة انقضى في ثلاث حروب عظمى: حرب التدخل الأجنبي العظمى، والحرب العالمية الثانية العظمى، والحرب الباردة العظمى.

 

وتذكيراً لا يمكن القبول بأن التاريخ البريطاني (الاستعماري)، أو الأميركي (الإمبريالي) جزء من تاريخ الإنسانية، وفي الوقت نفسه إقصاء التجربة السوفيتية من سجل الإنسانية، لا سيما أن هذه التجربة هي واحدة من المحاولات الجادة لاستعادة دور المجتمع من قبضة الدولة.

 

وبانهيار هذه التجربة، لا شك فقدت التجربة المدنية أفقها الإنساني العريض.

 

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.