انكفاء
ربما يلزمنا الكثير من الخبراء والمختصين والدارسين في العديد من المجالات لنفهم كيف تحولت اللغة الإنجليزية إلى لغة الحرب والعنف بأنواعه وأشكاله، ولنلاحظ أن الإرهاب الديني لم يعد يكتفي بلغته التراثية، وأصبح ميالاً إلى ترجمة أفكاره ومفرداته والتعبير عن نفسه باللغة الكونية.
وربما يلزمنا الكثير من هؤلاء، أيضاً، لنفهم كيف أن الظاهرة الدينية المسلحة تنخرط بتوسع لافت، لا ينسجم مع إمكانيات مجنديها واستعداداتهم الثقافية، في استخدام وتوظيف أحدث منجزات العلم والتكنولوجيا في «حربهم» الشعواء على العالم.
ويلزم دراسة الكثير، ومعرفة الكثير لفهم الظاهرة الدينية المسلحة في تجلياتها المعاصرة، بدءاً من لحظة الدخول الأميركي في نهاية السبعينات على خط الحياة السياسية في أفغانستان، والاستثمار الاستخباراتي الكبير في إيقاظ القبلية في ذلك البلد البائس، وتحويلها إلى معطى سياسي حاسم. ثم تحويل هذه القبلية إلى مجموعات دينية مسلحة بأيديولوجيات حارة وعنيفة. وهو ما يقودنا إلى ملاحظة «الشعوب والقبائل» التي تتناحر في إطار الظاهرة الدينية المسلحة.
وبالأساس، سيصدم المرء حينما يكتشف المرء أن صناعة العنف والتطرف مهمة أكثر تعقيداً من أن تكون موهبة الجهلة ومحدودي الثقافة والتعليم، واليائسين المنقطعين عن التاريخ وراءً والعصر أماماً، سواء كان الحديث يجري عن أسامة بن لادن أو الظواهري أو الزرقاوي أو البغدادي..!
وعلى هامش هذا، لا بد أن يلاحظ المرء أن العالم الذي يواجه أنواعاً متعددة من العنف الشامل، بدءاً من الحروب والإرهاب والحروب على الإرهاب وألوان النزاعات المسلحة، مضطر للتعامل مع اللغة الإنجليزية والتجاوب مع غزوها الموازي لمظاهر الحياة كافة؛ بينما هو ليس مضطراً لاستخدام مفردة صينية واحدة، رغم أن هذه لغة ذات تاريخ ثقافي عريق وممتد، وتخدم نحو سدس البشرية، وواحداً من أضخم اقتصادات العالم على الإطلاق.
وتالياً، يمكن لنا أن نفكر بالعلاقة ما بين الاستقرار وحال اللغة، ملاحظين أن المناطق التي تعيش لغاتها الوطنية حالة من الضمور والتراجع هي عملياً فريسة للعنف بألوانه، بينما المناطق المستقرة تتمتع لغاتها بحيوية كافية. وأن ضمور اللغات في المناطق الأولى، يمضي نحو تبني اللغة الكونية التي انتقلت من التاج البريطاني الملكي إلى ظاهرة الجمهورية الأميركية. وبهذا، لا يعود غريباً أن الظاهرة الدينية المسلحة في بلادنا باتت تميل إلى ترجمة أفكارها ومفرداتها والتعبير عن نفسها باللغة الإنجليزية، وتجد نفسها أكثر انسجاماً مع صواريخ «تاو» و«ستينغر» الأميركية.
يبقى كذلك من الضروري التفكير بالعلاقة بين اللغات المستقرة واللغة الإنجليزية المتمددة، وما تحمله الأولى من إمكانيات محتملة لمعادلة الثانية. لكن الأكثر إلحاحاً هو السؤال حول ما الذي نسيناه هناك في الماضي، لتعود بنا لغتنا من القرن الحادي والعشرين في رحلة ألف وأربعمئة عام طويلة إلى الوراء. في حين أن ما يجب أن نبحث عنه في الواقع هو شيء أضعناه هنا، في حاضرنا، ولا يمكننا أن نجده إلا في ثنايا رحلة إلى المستقبل.
وفي فارق لا بد من ملاحظته أن رحلة العودة إلى الماضي، في عالمنا العربي، اليوم، تسعى وراء نموذج ديني، لا قومي. بينما التجارب القومية العربية حاولت أن تبعث صورة الماضي الذهبية في حاضر معاصر. وهو الفارق ما بين محاولة اصطحاب الحاضر إلى الماضي للعيش فيه، وبين استحضار نموذج من الماضي لتجديده. وعلينا أن نلاحظ أن الفرق بين الحالتين، على أهميته، لم يأت بجديد يسوي علاقتنا بأنفسنا وبوجودنا.
مشكلتنا الفعلية ليست فقط في أننا نعتقد أن علينا القيام برحلة عودة إلى الماضي، وأنه بوسعنا أن نرغم العالم على العودة معنا إلى ماضينا الخاص البعيد، كما يعتقد أغلب المتطرفين الدينيين. بل في أننا جميعاً نعتقد أن للماضي وجهاً واحداً، وفيه كل الإجابات والحلول التي تلزمنا، دون أن ننتبه إلى أن ذلك الوجه الواحد مختلف لدى كل واحد منّا.
وربما لهذا يلزمنا وقت طويل لندرك أن عثرات الحاضر هي أفضل، بما لا يقارن، من نجاحات الماضي، مهما كانت!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.