انفصال
يمكن للإنسان أن يكون موهوباً بإقامة علاقات غنية وقوية بالمكان، وقد لا يكون. وبالدرجة نفسها يمكن للمكان أن يمارس تأثيراً عميقاً ومتسلسلاً، على الإنسان، لا يتوقف حتى بعد الانفصال المادي، والانتقال إلى أماكن أخرى. وقد يكون ذلك ظاهراً أو خفياً لكنه في أغلب الحالات محسوس. ويحتاج الإنسان إلى بلوغ عمر معين ليدرك أن ثمة أماكن كانت أكثر تجاوباً واستجابة للعلاقات التي حاول أن يقمعها الإنسان معها، وأخرى لم تكن أبداً تملك ما تقيم به تأثيراً يذكر.
مرابع الطفولة مثلاً، وأماكن أخرى، تبقى في الوجدان، وتحتفظ بتأثيرها المستمر المتواصل، مثل لغة نتعلمها، ونواصل استخدامها، وتغزو أحاديثتا اليومية بمفرداتها، مهما كانت اللغة التي نتحدث بها قريبة منا، ولصيقة بحاضرنا. بينما تحولنا أماكن أخرى إلى غرباء يتعثرون في محاولة الحديث بلغتها، مهما ارتبطت حياتنا الحاضرة بها.
في الغالب، تقف نوعية السلطة السياسية، ونمط البنية الاجتماعية السائد في بعض الأماكن عائقاً أمام إقامة علاقات مباشرة معها، شخصية، بعيداً عن علاقاتنا بالناس، وبمعزل عن الحقائق الاجتماعية السائدة. غير أن هذا ليس الحال دائماً، فبعض الأماكن تفتقر على نحو طبيعي إلى ما يمكنها من التأثير المتوقع علينا. وفي الحالين، يجد الإنسان نفسه مضطراً، للتعويض، إلى البحث في خياله عن أماكن أخرى وهمية، أو بناء طوابق جديدة من العلاقات مع الأمكنة التي كانت استجابت للغلاقة معه. تماماً مثل الهرب من فكرة تعذبنا إلى حلم عذب يسحرنا.
وسواء كان الإنسان موهوباً في إقامة العلاقات مع الأماكن أم لا، إلا أنه يظل على روابط وشيجة مع أمكنته الأليفة مهما غادرها. وكثير من الناس تعني لهم هذه العلاقات قيمة في ما يتعلق بموتهم، لما لا يقل عن حياتهم؛ فهناك من يعود إلى مكانه الأثير حينما يطرأ على باله إنهاء حياته، ومنهم من يوصي بمواراته فيها متى ما حضرته المنية.
بالطبع، يصعب على الإنسان بينما يكون بين الناس أن يشعر بسطوة العلاقة مع المكان عليه، أو أن يدرك هذا الارتباط الوثيق به. لكنه ما أن يخلو إلى نفسه حتى يتحول إلى سمكة لا تعيش سوى في مائها.
وهذا كله يذكر، على نحو غريب، بفتاة ما، في مقتبل العمر، تتلقى تدريباً لسنوات، إعداداً لها لتتوجه في رحلة فضائية بعيدة إلى كوكب لا يمكن أن يؤمّن العلم، والتكنولوجيا المتوفرة، رحلة ذهاب مع إياب منه. والتدريب الأساسي، في شقه النفسي والثقافي، يتركز في تعويدها على التعايش مع فكرة الانفصال النهائي عن المكان الأرضي، بالإضافة إلى القدرة على التعامل مع حقيقة أنها ستموت وحيدة، في كوكب غريب بعيد، بعد فترة قصيرة، هي ما تسمح لها معداتها به من قسط حياة هناك. إلى جانب إكسابها القدرة الذاتية على التعامل مع الجانب المظلم من عقلها، وما ينتج من مخاوف وحالات هلع وفزع،
ويبدو أن الأمر لا يتعلق بالمكان، لكنه مسألة جانب مظلم من عقل الإنسان!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.