انشقاق

انشقاق

يستطيع المرء أن يتيقن برجعة قصيرة إلى الوراء أن ظاهرة المنشقين ليست جديدة؛ فخلال الحرب الباردة حظيت هذه الظاهرة باهتمام وترويج واسعين، لا سيما بما يتعلق بالاتحاد السوفييتي السابق ودول المنظومة الاشتراكية، وأن يلحظ تركيزاً خاصاً على إعطاء الظاهرة طابعاً ثقافياً، من خلال مدّها بأسماء ثقافية (مبدعين وعلماء) وتضخيم الأهمية الثقافية لمن يتطوع في الانخراط في سياق الظاهرة.

انهار الاتحاد السوفيتي وتداعت منظومة الدول الاشتراكية. وتكشف بالنتيجة أن ظاهرة الانشقاق، في شكلها الذي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، قليلة الأهمية من الناحية الإبداعية. لم تقدم إسهاماً يذكر على مستوى الثقافة المحلية أو العالمية، وانحصرت أهميتها في دورها الدعائي السياسي.

وتكشّف أن المعارضين خارج الظاهرة أهم بكثير؛ أهم على المستويين الثقافي ومن حيث الإسهام الإبداعي، وعلى المستوى السياسي، رغم عدم قيام الكثير من هؤلاء بأنشطة سياسية مباشرة. بل وبرغم أن الكثيرين منهم عاش في الأطر الرسمية، وزاول نشاطه من خلالها.

وتكشف، كذلك، أن المنشقين الحقيقيين لم ينشقوا، ولم يتركوا مواقعهم في مؤسسات النظام، ولم يزاولوا أية أنشطة "خارج السياق"، بل أن الكثيرين منهم كانوا يبدون من غلاة أهل النظام، ويمارسون أدواراً في إحباط محاولات التغيير الداخلية، وتثبيت النظام في إطار صورة معينة. ولم يخرجوا للعلن إلا مع البيروسترويكا.

الظاهرة نفسها، أو فلنقل ترجمتها العربية، خرجت إلى حيز الواقع مع دخول عراق صدام حسين في مواجهة مع الغرب. لكن من الملاحظ هنا أنه برغم الأعداد الهائلة من المثقفين والمبدعين العراقيين الذين تواجدوا في العراق والخارج، إلا أن الظاهرة ومهندسيها لم يلتفتوا إلى الثقافة وأهلها، وتوّجه اهتمام الظاهرة في الحالة العراقية نحو العسكريين حصراً!

وخلال السنوات الثلاث الماضية من الاضطراب العربي الكبير ازدهرت هذه الظاهرة، وأضحت واحدة من أدوات القتل السريع للأنظمة، لا سيما في الحالة الليبية، التي أشرت على أن الظاهرة تتجه تحديداً نحو السياسيين والدبلوماسيين، لدرجة أن أحداً لم ينتبه إلى موقف الكاتب المعروف إبراهيم الكوني رغم أنه دبلوماسي قديم. ذلك، لأنه، بالمهنة والسمعة والتأثير، كاتب وليس دبلوماسياً!

ومن المهم هنا أن نتذكر أن الظاهرة غابت تقريباً عن الحالتين التونسية والمصرية. ويمكن أن نعزو الأمر، في الحالة الأولى، إلى أن العالم ومهندسي الظاهرة كانوا يرقبون المشهد المتحرك في تونس، ويتعاملون معه بوصفه حالة داخلية منفردة. أما الحالة المصرية التي تحركت في سياق عربي عام وضمن ما سمي بـ"الربيع العربي" فالأمر في الغالب يعود إلى واقع أن مصر هي دولة حقيقية، تتحرك في مجالها وطنية مستنفرة.

وفي هاتين الحالتين، بدا الصراع بين نظام ومعارضة وسلطة وشعب.

ومن المعتاد القول أن ظاهرة الانشقاق التي نشطت في سوريا، الحالة العربية الأبرز بعد ليبيا، قد فشلت. وهذا بالطبع قول ينسى أن الظاهرة استهدفت في البداية العسكريين وحققت نجاحاً مزعجاً لا يمكن تجاهله، رغم أنه لم يؤد إلى خلخلة تماسك الجيش.

هذا النجاح شجع على محاولة توسيع الظاهرة باستهداف الدبلوماسيين والسياسيين، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح ومنيت بفشل ذريع. وذهبت الجهود الهائلة التي بذلت لخلق ظاهرة الانشقاق السياسي والدبلوماسي أدراج الرياح، وأخفقت تماماً.

بالطبع مع استثناءات قليلة، غير هامة، لم تتعد الطابع الفردي. لكن من الملاحظ أن ظاهرة الانشقاق وصلت إلى مستوى تطوعي واسع في الوسط الثقافي السوري، وعلى نحو غير مسبوق لم نشهده في الحالات العربية الخرى. وبرغم ذلك بقيت ظاهرة "الانشقاق الثقافي" هامشية، لا أثر لها على الوضع في سوريا.

بل، ولا اعتبار لها لدى خصومها!

روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.

أضف تعليقك