الهوس العربي بـ"العالمية"

الهوس العربي بـ"العالمية"
الرابط المختصر

لا أعرف، بالضبط، متى نشأ هذا الهوس الأدبي العربي بـ"العالمية". لكني على يقينٍ بأنه ليس ظاهرةً قديمةً، وإن كنت أفترض أن الحالات الفردية لابدّ كانت موجودة، منذ بدايات القرن ومع ظهور الكتابة العربية المعاصرة.

لقد كان الأدباء العرب أكثر تواضعاً. وكان طموحهم الأدبي، في فترات تواضعهم، أكثر جدية. وكانوا هم أكثر اجتهاداً، لدرجة أن نصاً أدبياً قصيراً مثل رواية "أنت منذ اليوم" لتيسير سبول، لا يزال إلى اليوم أكثر جدةً وحداثةً وتجريبيةً من كل الكتابات العربية اللاحقة التي كرست نفسها للحداثة والتجريب! وكان في الأثناء نصاً حقيقياً، وأصيلاً.

وفي الشعر، لا يزال محمود درويش جداراً عالياً ومستحيلاً، حتى بالنسبة إلى معاصره، الذي ينافسه في شهرته ومقروئيته؛ أعني أدونيس الذي لم ينجح في تقديم تجربة مكتملة، ولا منتجة. وظلت نصوصه رغم محاولات تقديمها في "تجارب" معنونة ومراحل متتابعة، مجرد نصوص متناثرة، لا تتآلف في ما بينها، ولا تتآلف في سياق تجربة!

وأظن أن الفرق واضح بين التجربتين. لقد كان محمود درويش المتواضع بشخصه، يقدم نصاً لا يعرف التواضع، ولا يكتفي بسطحٍ شخصي. بينما بقي نص أدونيس، غير المتواضع بشخصه، محكوماً بنوازع قلمية تحاول أن تركب موجاتٍ، وأحياناً نصوصاً غربية بعينها.

الفرق بين "عالمية" محمود درويش وأدونيس لافتة.

لا يمكن أن تصادف أدونيس خارج منظومة الثقافة الغربية، والأوروبية الغربية على وجه التحديد. بينما تصادف محمود درويش إلى جانب ذلك في لغات حية عالمثالثية كثيرة، وأبعد مما يمكن أن تطال يد نفوذه المفترض. والمسألة ليست في الانتشار، بل بقدرة النص على إثارة اهتمام جدي.

يشير الهوس بـ"العالمية"، بالدرجة الأولى، إلى حالةٍ من الاستلاب للثقافة الغربية. إذ من المؤكد أنه لا ينطلق من رغبة في الوصول إلى القارئ في كل مكان، أو مخاطبة الناطقين باللغات الحية المعروفة على حد سواء.

إنه هوس يسعى للوصول إلى لغاتٍ غربيةٍ بعينها.

لا يهتم بالوصول إلى القارئ في سيريلانكا أو ساحل العاج مثلاً، بل إلى الثقافات التي استعمرت هذه البلدان. وأكثر من ذلك أن هذا الهوس العربي بـ"العالمية" لا يتوجه تحديداً نحو القارئ في هذه الثقافات، بل إلى الناشر، وبدرجةٍ أكبر، وعلى نحو أساسي إلى المؤسسات.

هل لهذا علاقة بالهوية الغربية للكتابة العربية المعاصرة؟ لقد عرف التاريخ الأدبي ألواناً من أدب المستعمرات الذي يتماهى مع ثقافة المستعمر، ولكن هذه حالة أخرى، وتبدو أكثر حقيقية في أسبابها من الهوس العربي بـ"العالمية"، الذي يتعلق بطموحات الأدباء وليس بفروض الأدب نفسه.

الأمر لا يتعلق بالإقرار الواقعي بمركزية الثقافة الغربية في عالمنا المعاصر. إنه يتعلق، على وجه التحديد، بالاستسلام للفكرة الاستعمارية القديمة بوجود ثقافة واحدة وحيدة، ذات هوية غربية، تمثل عالماً غربياً متحضراً، وأن ما عدا هذه الثقافة هي مجرد منظومات متخلفة وهمجية.

والهوس الأدبي العربي، هنا، هو عنوان الاستسلام لهذه الفكرة!

 

  • روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية.

 

أضف تعليقك