النور والنار

النور والنار

فورة التفكرات العربية في ثمانينات القرن الماضي وضعتنا أمام نتاجات فكرية، قدمها أكاديميون عرب عاملون في المؤسسات التعليمية الغربية، الأوروبية على وجه الخصوص، تحاول تفسير أسباب حالة «التخلف العربي»، بالتأكيد على خلاصة تقول أننا «أننا أمة إيمانية، لا تاريخية». وهذه فكرة جوهرية تستحق الاعتبار والنقاش، لولا أن أصحاب هذه الأطروحة من العلمانييين السوريين، نسوا كل محاججاتهم في الثمانينات والتسعينات، وتحولوا في مرحلة الأحداث العربية الأخيرة إلى غطاء علماني للقوى الإيمانية المسلحة!

 

ومن اللافت أن هؤلاء لم يكونوا وحيدين في ذلك. بل أن النموذج الأوروبي، الذي كانوا يستندون إليه في تعريف مفاهيم «التقدم» و«التخلف» وقياس مستوى حضور قيم الديمقراطية والحقوق المدنية، انزلق بكامل دوله إلى التغطية على القوى الإيمانية المسلحة في منطقتنا، وتوفير غطاء سياسي لها، إلى جانب دعم علني لوجستي، وأحياناً بالمال والسلاح أيضاً.

 

وأسوأ من ذلك، رأينا هذا النموذج الأوروبي، وأتباعه العرب، يدخلون في علاقات تحالفية مع دول ثيوقراطية ذات أنظمة قروسطوية، تمارس مع مجتمعاتها ما تمارسه المنظمات الإرهابية الظلامية من تعسف في تفسير الحقوق والواجبات والحقوق المدنية، واستخفاف بالحقوق الطبيعية، وعلى رأسها الحق بالحياة. وتتشارك معها التنكيل والعبث بدول ومجتمعات علمانية ومدنية.

 

والمفارقة الكبيرة أن باريس، التي لطالما خلبت لبّ طه حسين في مطلع القرن الماضي، تقوم بدور «ريادي» في ها المجال، لدرجة أن المرء يتساءل ما كان سيقوله الأزهري الضرير لو شهد ما تفعله اليوم باريس، التي كان يحلو له أن يدعوها بـ«عاصمة النور والنار»، و«مدينة الجن والملائكة»!

 

من المؤكد أنه كان سيصاب بالإحباط، لو رأى أن قيم النور والنار، العلم والمعرفة، يخدمان الظلامية والظلاميين، الذين قاومهم كل حياته، وحاربوه ويحاربونه حتى بعد مماته.

 

ومن المؤكد أن الأزمة هنا ليست أزمة الأتباع الأوروبيين العرب الذين فشلوا في السير على طريق طه حسين المنحاز إلى «النور والنار»، بقدر ما هي أزمة النموذج الأوروبي نفسه.

 

وإذا تحرينا مزيداً من الدقة، فإن المسألة لا تتعلق بجهات متفرقة. وليست أزمة شعوب أو أمم بعينها، ولا ثقافات محددة على وجه التعيين؛ بل هي على الأغلب أزمة كيان واحد شامل، لكنها تظهر بتعبيرات مختلفة لدى أطرافه المتعددة.

 

وهنا، يمكن للمرء أن يستحضر أطروحة تقول أن الظاهرة الإيمانية المسلحة، ليست أزمة وعي، ولا مجرد إخفاق جماعي في تفسير النصوص واستيعاب العقائد أو فشل في تكييفها مع مستجدات الحياة، بل هي أزمة المنظومة الشاملة، التي فيها أوروبا في موقع صدارة.

 

والحديث يجري هنا عن الرأسمالية العالمية، التي تعيش مفارقاتها القاتلة إلى جانب أزماتها الخانقة. مفارقاتها التي تجعلها مثلاً تقدس الملكية الخاصة، لكنها بالمقابل تحتقر الملكية الشخصية، وتعتدي على الملكية الاجتماعية. مفارقاتها التي تجعلها تقدم الحوافز والتسهيلات والمساعدات الهائلة من الأموال العاملة للمصارف، وتصرف لها الإعانات الباهظة إذا ما تعثرت، وبالمقابل لا تتسامح مع فرد من مواطنيها حاز قرضاً شخصياً ضئيلاً وعجز عن سداده.

 

وترى الأطروحة أن هذه المنطومة العامة المأزومة، تستخدم الإيمانيات المسلحة، لتتجنب هي نفسها شن حروب إقليمية مرهقة، ضرورية في سياق أزمتها، من جانب. ولتحد من اندفاعة مجتمعاتها الخاصة في انتزاع مزيد من الحقوق والمكاسب المدنية والاجتماعية، وصد محاولات إيجاد منظومة رقابة فعالة على سلوك الأجهزة الأمنية والمالية (تحالف الأجهزة الأمنية والمصارف)، وتعطيل محاولات ربط القرارات السيادية الكبرى (الحروب على وجه الخصوص) بالمصالح الاجتماعية للشرائح الأوسع.

 

يمكن هنا، ملاحظة أن العداء الشديد للطبقة الوسطى، هو القاسم المشترك القوي بين القوى الإيمانية المسلحة والنواة الصلبة في المراكز الرأسمالية (تحالف الأجهزة الأمنية والمصارف).

 

يمكن للمرء أن يتصور في هذا السياق أننا شعب يعيش في التاريخ. لكن في حقب الأزمات الرأسمالية ليس هنالك تاريخ وثقافة وطنيان حقاً. هناك تاريخ وثقافة مهيمنان، ولهذا نحن نعيش تاريخ الأزمة، بينما تتحول ثقافتنا إلى تعبيرات إيمانية متطرفة لها أصلها في الأزمة الكونية العامة، ولا علاقة لها بواقعنا المتخلف الذي لطالما كان يحفزنا لاستدعاء «النور والنار»!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.

أضف تعليقك