الموت يغيب القرن العشرين
اليوم، بوفاة بوفاة محمد حسنين هيكل ينتهي، واقعياً، القرن العشرين، ولا يهم أن عدوه اللدود هنري كيسينجر لا يزال على قيد الحياة. هذا نقيض لم يعد مهماً بقاءه طالما أن نقيضه رحل.
وهنا، أفهم أنا نفسي، ما كنت لاحظته سابقاً، ولم أجد طوال الوقت تفسيراً له. أعني تأكيد هيكل الدؤوب واللا واعي على تقديم علاقته القديمة، الوعرة من الجانبين، مع الثعلب الأميركي المختص بالحقول العربية، باعتبارها علاقة تقابل لا تحمل شيئاً من معاني التماثل والتشابه، بل التنافر والتضاد.
وفي الفارق بين الرجلين أن كسينجر كان وما يزال يريد تعطيل الزمن عند القرن العشرين، وفي محطته الأميركية بالذات. بينما كان هيكل يندفع بإيمانياته نحو الاعتقاد الواقعي أن الزمن لا يمضي علينا فقط في حال، بل ينقلنا ونحن على ثباتنا واقفين من حال إلى حال. وكان يؤمن أن هوية الزمن ليست امتيازاً حصرياً للقوى العظمى، بل يمكنه أن يلبس هوية وطنيات عالمثالثية متحررة من التمركز على نفسها، وتنتمي للإنسانية.
وهنا، يمكننا الحديث عن الفارق بين البطريركي الإمبريالي، الذي لا يتصور العالم من دون دولة إمبريالية «قائدة» تملي فروضها على العالم وشعوبه، وقادرة على دفعهم إلى الرضوخ لإرادتها، وذلك المصري المليء بصوت العالم المتعدد وشعوبه، الذي يرى أن تاريخ العالم المظلم بلغ ذروته مع الحقائق الاستعمارية، وأن العالم ينتهي من كل ذلك إلى للخروج إلى عصر جديد.
ما بين مستشار الأمن القومي الأميركي وبين وزير الإعلام والإرشاد القومي المصري (ووزير الخارجية لأسبوعين) فارق لا يقاس بحجم الأشخاص فقط، لكن بالمعاني.
وفي المعاني، هناك فارق بين الأكاديمي الذي يوظف معارفه في خدمة الهيمنة السائدة، وبين المثقف الذي يؤمن أنه رسول التغيير، المؤمن بأفكار تجربة عدم الانحياز، الخطوة الجريئة المليئة بالإرادة لشعوب مغلوب عليها، لكنها أصرت أن لا تغلب على أمرها.
الفارق بين هيكل وكيسنجر، أن الأول، لم يرضخ كما أغلب الدول العربية إلى تلفيقات الثاني، التي ذهبت إلى رفض الاستشهاد بالتاريخ بما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان أول من انتبه إلى أن خصمه الأميركي الذي يردد في مجالسه العربية بإصرار «دعونا من التاريخ. لقد مضى وذهب لشأنه»، لا يستطيع أن يقول لأبناء جلدته العبارة نفسها حول تاريخهم مع ألمانيا في الحرب العالمية الثانية!
وربما بتأثير من ذلك، عزز الراحل العربي مهنته الصحافية بالتوثيق والوثائق والشهادات، ومحاورة التاريخ واستحضاره مراراً وتكراراً، والاندفاع إلى تسجيله وتدوينه وتحليله والتفكر بصروفه.
لقد مثّل هيكل الحالة الاقتحامية العربية الأبرز للغرب. لم يسلك المسالك التي تأسره بعقدة نقص. وخلافاً للرواد العرب في اقتحام الغرب، وتلامذتهم المتتابعين حتى اليوم، لم يكن متفاعلاً باتجاه واحد. ولم يكن مستقبلاً فقط، بل كان مرسلاً قوياً بحجم وزارتي خارجية وثقافة فاعلتين. ومن المؤكد أنه أفاد حق الإفادة من حس الاستقبال عنده، وأن الغرب ضيع فرصة ثمينة بالتغافل عن استقبال إرساله.
علينا أن ننتبه كذلك، أنه من بين قلة نادرة في العالم العربي، ممن برزوا في مجالاتهم، كان كثير التقدير، والاحترام إلى حد التبجيل، لثلاث مفردات بكامل معانيها: الأدب والفكر والفن.
وربما كان إيمانه بالأدب تعدى الحدود، ووصل معه إلى مهنته، فكان يستعين به في النص وما وراءه. في المبنى والمعنى، وبه صنع أسلوبه الساحر، الذي صنع سلاماً بين القارئ العادي وقراءة تاريخه الخاص، ومكنه من تصور الأحداث ووعيها.
أذكر أنه كتب في "خريف الغضب" يوضح الفارق بين الرئيسين جمال عبدالناصر والسادات، فيستذكر كيف كان جالساً مع السادات يوماً في مركبه الذي يستجم فيه، فجاءه سكرتير الرئاسة يحمل رزمة ملفات، وما أن رآه السادات حتى انفجر به غاضباً: «إيه ده. إيه ده؟ انتو عاوزين تقتلوني!؟».
ثم قال لهيكل: «انت شفت إزاي! عاوزين يقتلوني زي ما قتلوا الراجل!». ويقصد بـ«الراجل» الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ويعلق هيكل على هذه الحكاية، فيقول: لقد ابتلى الله مصر برئيسين: الأول مات لأنه يقرأ كل شيء حتى القصاصات التي ترده من المواطنين العاديين. والثاني لأنه لا يقرأ أي شيء!
وأنا أعقب، على كل هذا فأقول: أتمنى أن يكون أولئك الكثيرين الذين يعتقدون أنهم قادرين على إعطاء رأي نهائي بهيكل، أن يكونوا مع القراءة أفضل من السادات، ولو بقليل.
سيبقى في هيكل الكثير مما يحتاج أبناء العالم الثالث تذكره.
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.