المواقع والصحافة والسباق على الحقيقة
كتب جهاد الخازن في مقالته اليومية في "الحياة" عن قصة "موقع ويكليكس" الالكتروني الذي نشر آلاف الوثائق عن الحرب في افغانستان والعراق, وهو ما كنت قد اشرت اليه في مقالة سابقة عند تناول ازمة المواقع الالكترونية مع الحكومة وان مقارنة الخازن بين هذه المواقع وبين الصحافة ووسائل الاعلام في الولايات المتحدة يشدني الى تناول هذا الموضوع مرة اخرى.
يكتب الخازن "بان الميديا الامريكية الرئيسية, الصحافة التي تحمل وسام ووتر غيت لم تكشف تزوير ادارة بوش معلومات الاستخبارات في الاعداد للحرب على العراق, ولم تلاحق مجرمي الحرب.. بل كانت احيانا متواطئة مع عصابة الحرب بما نشرت في صدر صفحاتها من اخبار ملفقة, هذه الصحافة الامريكية تدفع اليوم ثمن تواطئها في جريمة ادارة بوش, ومن دون ان تحاول التكفير عن ذنبها, الصحافة الورقية تراجعت واصبح الناس يعتمدون على المدونات (البلوغز) في تلمس الحقيقة".
اذن اعتماد الناس في "تلمس الحقيقة" على المواقع والمدونات وغيرها هي حالة امريكية, في بلد يسمى بقلعة الحرية في العالم, فكيف سيكون عليه الحال في الدول الاخرى, خاصة الدول العربية ومنها الاردن, ما دام الاعلام الرسمي والصحافة الورقية لا يزالان في حالة حصار ورعب ومناخات متتالية, هي اشبه باعاصير الاطلسي على الصحافة من خلال القوانين المؤقتة ومحاكم امن الدولة وغيره.
المسؤولية تقع بدرجة كبيرة على الصحف الورقية التي تعتقد بان المواطن لا يزال مغمض العينين, بريئا لا يعرف شيئا عما يدور حوله, وهذا وهم كبير يعود بالضرر على الصحف الورقية وعلى مستقبلها لانها تتجاهل ارتفاع اعداد المواطنين الذين يريدون معرفة الحقائق والحصول على المعلومات التي تتعلق بشؤون وطنهم الداخلية والخارجية واعتبار ذلك جزءا من حق المواطنة.
هذا الوهم يعود ايضا بخطر اكبر على الحكومات من خلال خسارتها للرأي العام وغياب الثقة باقوالها وسياساتها, ذلك ان ما تفرضه من ضغوط واجواء عمل قاتمة امام الصحافيين والصحف هو المسؤول اولا واخيرا عن ازدهار اعداد المواقع ولجوء المواطنين الى المدونات (والفيس بوك) وغير ذلك للتعبير عن الرأي, بل ما هو اكثر من ذلك, تزايد اعداد المواطنين الذين يرغبون يوميا بمشاركة مواطنين آخرين في حوار حي ومباشر حول قضايا وطنية تتجاهلها الصحافة الورقية, وهي مشاركة يغلب عليها العواطف وردود الفعل في غياب دور الصحافة الورقية في تلبية رغبات المواطنين بمعرفة الحقائق وخلفية الاخبار.
يصف المفكران المعروفان نعوم تشومسكي وادوارد هيرمان تواطؤ الصحافة الورقية مع الحكومات "بحالة صناعة الاجماع" اي بكلمات اخرى, عملية استخدام الصحافة ووسائل الاعلام وابواق الدعاية لايجاد جمهور سلبي مطيع للسياسات الحكومية.
لكن ثبت ان هذه الحالة لا تستمر طويلا في ظل التطورات التكنولوجية الهائلة التي تشهدها وسائل الاتصال, من الانترنت الى الخلوي الى الفضائيات والمواقع والمدونات. فلم تعد صناعة الاجماع ممكنة عدا انها تخالف طبائع البشر وطبيعة النظام الديمقراطي, فالصحافة الامريكية, وتراجعها امام المواقع والمدونات تدفع اليوم ثمن "صحافة دفتر الشيكات" في عهد بوش, حيث كانت ملايين الدولارات توزع من خلال شركات علاقات عامة, على كتاب الاعمدة ومنتجي البرامج التلفزيونية لتجميل قرارات الحرب.
في الظاهر, في الاردن وفي الولايات المتحدة وبلدان كثيرة, تطفو على السطح ازمة بين الحكومات وبين المواقع, كما يحدث في واشنطن مع موقع "ويكليكس", لكن في الحقيقة, الازمة الفعلية موجودة في ملعب الصحافة الورقية التي ان لم تتشبث بحرية النشر وحرية النقد وحرية بث المعلومات والحصول عليها بمواجهة ضغوط الحكومات فانها ستكون الخاسر الاكبر في المعركة التي سيكون زمانها العقد الحالي.
إذا لم تنجح الصحافة في جذب المواطن الذي يريد (تلمس الحقيقة) فان معركتها ستكون خاسرة امام الرأي العام, اما اوهام (صناعة الاجماع) التي تريد الحكومات اخضاع الصحف لها فهي شيء من الزمن الغابر والعهود الفاشلة.