المفتاح  

المفتاح   

 

 

 

 

سبعة وستون عاماً مرَّ على ما أسموها "نكبة" فلسطين، ولا أعرف مَن كان صاحب هذا التوصيف المتفائل الذي يوحي بأنّ الأشدّ سوءاً ها قد وقع، ولن تكون الأيام التالية على هذه النكبة سوى اليقظة عليها، ودراسة أسبابها، ومعالجة نتائجها، ومن ثم محوها من الواقع بخلق واقعٍ جديد، نقيض، يجعلها مجرد "حَدَث صغير" في تاريخنا ستتم معالجته وتصويبه فانتَظروا! وانتظرنا.

 

هذا ما أشبعونا به، حُكّامنُا الحكيمون، وهذا ما نشأ وعيي عليه؛ إذ كانت ولادتي في عام تلك "النكبة" فصرتُ، تبعاً لهذا القَدَر أو هذه الصُدْفة، أحد أبنائها. أنا ابنٌ لهذه النكبة بمعنى الوارث لِمْا أمْلَتْهُ عليَّ من لزومات، وواجبات، وترتيب أولويات، وصولاً إلى برمجة سياقات عَيش داخل مستتبعاتها: تثقيفٌ ذاتيّ ضمن الاستعداد لـ"معركة التحرير"؛ إذ دون بناء الوعي، وتحرير العقل بإطلاق حريته في النظر إلى الحياة، لا يكون للجهد الإنساني أيّ طائل يُرْتَجى. كما لا رجاء أو جدوى من الفعل الفردي المعزول عن الجماهير، حتى وإنْ كانت "النوايا طيبة"، ولذا باتَ عليَّ (وعلى غيري من أبناء النكبة) الانخراط في الأحزاب الداعية للتحرير، أو الانحياز لها والدعوة لشعاراتها – طبعاً دون إغفال ما نشأ عن تلك الانحيازات من عداوات لكل مَن/ ما يتعارض معها، أو ما يبدو أنه كذلك، أفكاراً وأشخاصاً على هيئة "زعماء". أحزاب وزعماء قالوا سنبني قواعد التحرير فانتظروا! وانتظرنا.

 

مرّ تسعة عشرَ عاماً فحل علينا 1967 المشؤوم، وكان أن حصدنا انتظارنا مواجهةً مع عدونا، مسبب نكبتنا، أدّت إلى هزيمة صادمة أسموها "نكسة"! وإني والله لأعجب إعجاباً كبيراً بقدرة اللغة العربية على استنباط مفردات تلائم (أو تزيّف) الواقع الذي نعيشه. فما كان أوّلاً نعتناه بالنكبة، وأهلنا الذين أُخرجوا من أرضهم فلسطين تم وصفهم بـ"لاجئين"، أما مَن دفع ثمن تلك الهزيمة/ النكسة من هؤلاء الأهل فكانوا مجرد "نازحين"! صُرِفَت وعودٌ للاجئين حينذاك بقرب عودتهم، ولكن عليهم أن ينتظروا بعض الوقت، فانتظروا.

مضى الوقت، ولدت أجيال، خُلقت أزمات، وقعت انقلابات، تبدلت أنظمة، دخلت جحافل السجون باسم التحرير والعودة، وخرجت من المعسكرات جحافل أخرى أخذت الحكم بقبضاتها لتحقيق التحرير والعودة بدلاً عن الحكّام السابقين "الخونة"، وقالوا: قليلاً من الصبر على الانتظار والغد المشرق آتٍ إنشاء الله! فانتظرنا، غافلين عن أنّ الله لا شأن له بهذه المسألة الأرضية السياسية تحديداً، بل هي مشيئة حكّام الأرض وناس الأرض.

 

ولأنّ حُكّام أرضنا هم ما بتنا نعرف وندرك حقيقتهم، قُلنا: فلنأخذ قضيتنا بأيدينا. وامتشقنا السلاح، فامتشقوا المؤامرات وبذر أموال الرشوات الكبرى! وهكذا دخلت جحافل جديدة إلى السجون، وخرجت جحافل مستجدة من المعسكرات واستوت على سُدة الحكم.. أو استولت عليه، لا فرق.

 

لا علينا. مجموعة لم تكتمل بعد من المآزق نقلت "قضيتنا الأولى" من الصف الأول (ولو على سبيل الشعار والحجة في كل تغيير أو أزمة) إلى الصفوف الخلفية والأرشيف المُنَحّى، دون أن ننسى تزويد كل مَن يرفض النسيان بـ"مفتاح"، حتى ولو كان مجرد رسم على قطعة كرتون، أو طباعته فوق قميص تي شيرت، أو صياغته قِلادة ذهبية تعلّق حول الرقبة! نعم، إنه رمز وواقع في الوقت نفسه، غير أن المقلق في المسألة برمتها أنّ هذا المفتاح لا يُذْكَر إلّا في 15 أيار من كل سنة، ثم ننتظر حلول عام جديد. تحولت فلسطين، قضيتنا الأولى، إلى مناسبة سنوية عادية، لا بل باهتة، مثل عيد ميلاد أحد أفراد الأسرة: بضعة شموع، قالب حلوى، نشيد يُتلى، ثم ينفض السامر! مع التذكير بأننا لا ننسى أبداً حصتنا من قالب الحلوى. وكل عام وأنتم بانتظار عام آخر! ولا عَتَب ولا من يعتبون.

 

علينا أن ننتظر؛ فهنالك اليوم داعش، وأخواتها، وبنات عمومتها وخؤولتها، في جميع أراضينا المحروقة الواردة في السطور التالية. هنالك أنظمة مقاومة تواجه أنظمة عميلة. هنالك تهديد إيراني وتواطؤ دولي. هنالك برلمانات من ورق. هنالك دماء حقيقية تغطّي خرائطنا، وليست عصائر بندورة للتصوير فقط. هنالك العراق، هنالك سوريا، هنالك ليبيا، هنالك مصر، هنالك اليمن، هنالك الصومال، إلخ. علينا أن ننتظر أنظمتنا، المقاومة والعميلة معاً، حتى تنتهي من أزماتها/ أزماتنا التي خلقتها بإيديها وها نحن ندفع جميع الفواتير مصيراً مرمياً في المجهول، وأجيالاً ملقاة في توابيت الهجرة غير الشرعية في البحر الأسود المتوسط.

نعود للمفتاح. المفتاح إيّاه.

 

أهو مفتاح الحل، أم مفتاح بيت في بلاد اسمها فلسطين تحوّل بابه إلى حلم يقظة، وقفله إلى سؤال ضاع جوابه في طوفان أخشى أنْ لا "نوح" يبدو في الأفق ننتظر قدومه، ليبني لنا سفينة النجاة.

وكل 15 أيار ونحن بانتظار فَرَجٍ لا يتخايل مثل سراب في الصحراء.

 

 

  • إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.
أضف تعليقك