المحبّة وعبدالله رضوان
المَحبّة كَرَمٌ في أصفى معانيه. المَحبّة كرامةٌ تتجلّى في الإنسان القادر على بذلها، لأنها، في حقيقتها الخافية على الجاهلين بها، لا تنتظر ثمناً.. وإلّا فإنها تُحْجَب! المحبَة ليست بضاعة مقايضة في سوق العلاقات الاجتماعية. ليست مالاً، ولا جاهاً، ولا سلطة أرضية تملك امتيازات "أصحاب السطوة" بمختلف أوجهها. المحبّة سِرٌّ مكشوف يعلن عن نفسه في أفعاله كلّ دقيقة ولا يتخفّى، لكنها، ويا للغرابة، عَصيّة على كثير من البَشَر إذ يرونها لا تُفْهَم بالمدلول المادي، ولذلك فإنها غريبة على "طينة" هؤلاء البَشَر. المحبّة أكثر من ذلك كلّه، ورغم هذا تراها عُرضة لتهمة التزلف والزيف – ولا غرابة: نحن نعيش عالماً من التزلف والزيف، فكيف لنا أن نفرّق فنستخرج حَبّة المحبّة من وسط أكوام الزؤان؟!
لا أكتب عن المحبّة لأنني أفتقدها في واقعي الشخصي المعيش، أبداً– فأنا عشتها وأعيشها وأعرف كيف أميّزها عمّا يتشبّه بظاهرها. أكتب عنها، وبها، لأنّ أحد الذين منحوني كَرَمَ معناها الصافي قد رحلَ اليوم! رحلَ دون قدرتي على الإتيان بفعلٍ أردّ به على "لمحة محبّة" سريعة بعثها خاطفةً، كأنها قبلة طائرة في المسافة بيننا، كأنه لا يبتغي سواها، ولا ينتظر مني أيّ مقابلٍ لها.
كانت المسافة أبعد مما ظننت.
كانت مسافة صوت غير قابل لأن يطلع مني، وإنصات ليس بوسع عبدالله رضوان أن يمنحه لي.. هذه المرّة.
غابَ عبدالله رضوان في غيبوبة أخَذَتْه إليها ولم يرجع من كهفها العميق! لكنه، قبل هذا بأقلّ من شهر واحد، هاتفني. وكمألوفه في الكلام السريع، والجُمَل المكثفة، والزهد بالثرثرة الأثيرة لدى القسم الأعظم من "المثقفين"، كان أن سألني:
"أأنتَ بخير؟"
"أنا بخير. نعم." وأتبعتُ مستدركاً، كما هي عادتي: "قياساً للخراب المعمم طبعاً!"
"أسألك عن صحتك. أحوالك. لستَ مصاباً بأيّ سوء؟"
"نعم. الأشياء عادية في زمن ليس عاديّاً. لا بأس."
"حسنٌ. إذن غيابكَ واختفاؤك لا يحمل مشكلة أخشى منها عليك؟"
"اطمَئنْ. كل شيء على ما يرام."
وأنهى المكالمة من جانبه فوراً.
ولم يكن "كل شيء على ما يرام"؛ إذ لم تمض حفنة أسابيع وأدخلته الغيبوبة في جوفها، فحُرِمْتُ من أن أردّ له محبّته بما يساويها.
غير أنّ المحبّة ليست مقايضة أبداً. تكتفي بذاتها الفائضة عن "حاجاتنا" نحن. هي أكبر منا جميعاً، وربما لأنها كذلك فإنها غير مرئيّة مثلما تُرى صغائر الأشياء.
أكتب عن المحبّة وعن عبدالله رضوان معاً، فهما، هذه اللحظة، تؤاما البذرة الصالحة التي إنْ ضاعت فَسُدَت الأرض وتاه إنسان الأرض.
لا أملك حساباً على "الفيس بوك" لأنعيكَ يا صديقي بجملة قصيرة، مرفقاً بها صورةً تجمعنا معاً.
لا أملك أيّ أداة من أدوات ما تُسمّى "وسائل التواصل الاجتماعي" لأنشرَ خبر غيابك وأنثرَ التعابير السائرة إيّاها.
لا أملك من آخر تلك التواصلات سوى البريد الإلكتروني "المتخلف"، فكيف لكَ أن تقرأه وأنت "هناك"، بعيداً عن جهازك المفتوح دائماً فوق مكتبك؟ المفتوح على الجرائد المدماة، والمواقع الثقافية المعلبة، وأخبار الدمار المتبختر بيننا دون خجل؟ دون خَجَل منه، أم مِنّا؟
أأسألك، مثلما سألتني: "أأنتَ بخير، الآن؟"
أظنكَ ستجيبني:
"هنا أفضل!"
وأكاد أصدّقك.
فجر السبت 14/3/2015
- إلياس فركوح: كاتب وروائي. حاصل على جائزتي الدولة التقديرية والتشجيعية في حقلي القصة القصيرة والرواية.