اللهو والفسق والفجور
نُعيت الطبقة الوسطى كثيراً خلال العقدين الماضيين، حتى بات من المسلّم به أنها منقرضة لا محالة، ولا مكان عملياً لها في الحياة "المعاصرة" سوى ذلك الهامش المتروك للمشردين، وبقايا الإثنيات المطلوبة لأغراض بحثية أو متحفية. وأضحى الاهتمام بها يقع في باب الحفاظ على الأنواع المنقرضة.
وفي السياق العام، يمكن رصد الانحدار في وضع هذه الشريحة – الطبقة من خلال ملاحظة أن الحديث عنها انتقل بنا من مناقشة دورها العام والحاجة إليها بوصفها طبقة، إلى ملاحظة أن حضورها العام بات يقتصر على إعلانات العمل التي ترى فيها مجرد أفرادٍ وأصحاب مهن ومهارات قادرة على شغل وظائف محددة في سوق العمل.
ويمكننا أن نلحظ كذلك أن وضع الطبقة الوسطى انحدر أكثر من ذلك. لقد تحولت إلى مجرد أيد عاملة، رخيصة في أغلب الأحيان، تجري المتاجرة بها، ويجري تداولها كونها قوة (وأحياناً أداة) عمل في الأسواق؛ وذلك بالتزامن مع تحييد كل إمكانياتها في بناء واقع وحقائق ثقافية مستقلة عن قناعات وحاجات رب العمل، المتاجر الأساسي برأسمالها.
ويذكّر هذا الحال بوضع عاملات الخدمة في البيوت!
وفي سياق هذا المشهد لا يمكن إلا أن يلاحظ المرء أن ثمة مدناً "حديثة" باتت تربي اصطناعياً فئات مستنبتة من الطبقة الوسطى المأسوف على شبابها؛ وتبني لها بيئة استنبات "مناسبة" تتكون من:
- حالات اختراق كبيرة لسقف المداخيل المعروفة (سلّم الرواتب)، وتمثل رغم أنها حالات قليلة ومعدودة إغراءً غير محدود في تكريس النموذج الاصطناعي للطبقة الوسطى، وتخاطب ميلها إلى الصعود.
- تأمين قدرة استهلاكية عالية، تمتص من جهة المداخيل بأنواعها (وتضمن بالتالي ارتباط الطبقة الوسطى بالسوق والحفاظ عليها في موقع الحاجة)، وتمنحها شعوراً بالرفاهية، وتحولها إلى مستهلك لأنواع الترفيه.
- بنية تحتية للهو وإمكانات وفيرة في استخدامها، تلبي حاجات الطبقة الوسطى إلى الشعور بـمعاصرتها وحداثتها، وتطفئ نزعاتها الدفينة إلى مغامرات (محسوبة بالطبع!) أو إلى السخرية من الذات التي تحل مكان التفكير النقدي.
وتمثل هذه البيئة بالمجمل استنساخاً سهلاً ورخيصاً لوعود السوق، وتوفر تمثلاً سهلاً بنمط حياة وامتيازات سادته؛ لكن هذا لا يلغي حضور فروقات جوهرية رئيسة، منها:
- أن الطبقة الوسطى تلجأ إلى اللهو للتحرر من ضيق ذات اليد والإرادة اللذين يفرضان حضورهما، رغم كل الامتيازات الوارد ذكرها. ويمثل اللهو هنا حالة من الاستهتار الذاتي بامتيازاتها ومداخيلها وبعوائد قوة عملها. بينما يمثل اللهو في حالة سادة السوق استهتاراً بالإنسان، سواء ذلك الذي أمن استغلال قوة عمله المال اللازم، أو ذلك الإنسان الذي يعمل في مجال اللهو والترفيه.
- اللهو هو لون الطبقة الوسطى في الترفيه (التحرر من ضغط الحاجة والعيش في وهم الكفاية والوفرة)، بينما الفجور هو في حقيقته، وبعيداً عن التوظيف الديني الدوغمائي، هو لون الترفيه المعتاد لدى سادة السوق (التنافس في الإنفاق ومحاولة إثبات السيادة على المال).
- وما بين اللهو والفجور هناك الفسق؛ الذي يحظى هو الآخر باستخدام ديني محدد، إلا أنه في الواقع ينتسب ويعبر عن حالة سادة السوق الذين يتماهون مع المال إلى درجة أنهم يحاولون إظهار أنهم لا يأبهون بالربح والخسارة.
وبالعودة إلى المدن التي تستنبت الطبقة الوسطى اصطناعياً، نلاحظ أنها في جوهرها محافظة، بل ورجعية في الجوهر، ولكنها تذهب نحو نموذج "حداثوي" وعصري مبالغ به، حينما يتعلق الأمر بالسوق وحاجته إلى الاستعباد "العصري".
وللأسف، فإن العلم والثقافة والتكنولوجيا تخدم هذه الازدواجية بكفاءة واندفاع!
روائي وقاص وسيناريست. عمل مساعد مدير تحرير صحيفة “الشبيبة” العُمانية، ومديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية