القيادة الرشيدة
تبدو فكرة "القيادة الرشيدة"، للوهلة الأولى، مجرد كلمة روتينية تجد مكانها في سلسلة التدبيجات المعهودة في العلاقة مع السلطة في بعض بلداننا العربية؛ ذلك ما توحي به حقيقة أنه يتم استخدامها بمناسبة وبلا مناسبة، وفي الغالب دون أن يكون لدى مستخدمها فكرة واضحة عن معناها أو حقيقتها..
ولكنها في واقع الأمر أكثر الأفكار تدميراً للعقل والإرادة!
بداية، لأنه حيثما حضرت فكرة "القيادة الرشيدة"، غابت فكرة "الحكم الرشيد". وحيثما أستحضرت، تم تغييب فكرة الدولة مقابل التأكيد على الولاء لشخص أو أشخاص بعينهم. ولا داعي للقول أنها فكرة تخدم نمطاً من السلطة، يعتبر اليوم من مخلفات الماضي، ولا يثير عملياً سوى اهتمام المؤرخين؛ ولهذا لم يستغرب أحد أن عقل الملك قاده في أوج نشاط الحراك الشعبي في الأردن إلى الحديث، تحديداً، عن مستقبل النظام الملكي، وهو الحديث الذي غاب بغياب الحراك.
نعرف أن هذه الفكرة لا تملك معنى حقيقياً، وأن كل زخمها يكمن في الشحنة الانفعالية التي يمكن أن تبثها في الجموع؛ لذا، فإن الإحتفاظ بها في الوقت الذي تكون فيه فاقدة لقدرتها على التأثير والشحن، لا يعني شيئاً سوى أن العقل السياسي يتخلف عن واقعه، أو يتجنب رؤيته. ويمكننا أن نرصد بعض المؤشرات الواضحة على ذلك. ومنها التأكيد المستمر، من قبل أطراف متعارضة، على أن الأردن غير قادر على الحياة خارج إطار معادلة الحكم الحالية، القائمة على أساس هذه الفكرة.
طبعاً، هذا يجعلنا نتساءل عن دوافع الاستثمار في هذه الفكرة، لا سيما من قبل الكثيرين خارج السلطة!
فكرة "القيادة الرشيدة" مسؤولة عن كوارث أردنية كثيرة؛ لقد كانت تعني دوماً التفرد في القرار، وانتهاج سياسات غير توافقية، والحفاظ على منظومات عمل قادت إلى سيطرة الفساد على البلاد، وتحويل الدولة نفسها إلى دائرة تابعة للأجهزة الأمنية. وأنتجت كل المشاريع السياسية التي تثير اليوم شتى المخاوف لدى مختلف الأطراف.
أعني الأطراف نفسها، التي تستثمر في هذه الفكرة، بذريعة الحفاظ على الأردن!
وهذا الاستثمار، بالمناسبة، يتعامى عن الحقائق العيانية؛ من الواضح أن "القيادة الرشيدة" غير قادرة على الحفاظ على الأردن. بل تعجز عن توفير الحد الأدنى من متطلباته، ولا يبدو أن عبقريتها الاقتصادية تتيح لها سبيلاً آخر تنتهجه في تمويل نفسها سوى الاعتداء على قوت المواطن، والتفنن في أساليب مد اليد إلى جيبه..
في المقابل، نرى أمثلة أخرى في بلدان لا تحفل بفكرة "القيادة الرشيدة".
لقد استطاع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مثلاً، أن يترجم ديبلوماسية سبعة أشهر فقط إلى أرقام فلكية من المساعدات والاستثمارات العربية والدولية؛ مضافة إلى مليارات سابقة من الدعم والمساعدات العاجلة التي سبق أن حصلت عليها مصر. والسبب بسيط بالطبع، ويتلخص في أنه لم يكن يدعو للاستثمار في شخصه وعبقريته المفترضة في الاقتصاد والحكم، بل في أهمية بلاده مصر.
نعم. استغل حاجة عربية ودولية لخلق قوة معادلة لإيران في المنطقة. وحوّل هذه الحاجة إلى فاتورة بحجم مشكلات مصر، وترك الراغبين من المنطقة وخارجها يدبرون عمليات توفير المال اللازم لسدادها، ففعلوا أملاً في أن تتحمل مصر وجيشها عبء مواجهة إيران، دون أن يلتزم بشيء تجاه هذه الآمال، التي من المستبعد أن يتمكن من تحقيقها حتى ولو أراد. ويمكننا أن نلاحظ أنه يجري الدفع لمصر قبل أن تخطو خطوة واحدة في هذا الاتجاه.
هذا، في الوقت الذي تصر فيه حكومتنا الرشيدة على دفع الأردن إلى تقديم مختلف أنواع الخدمات الخطرة، والقيام بكل أنواع الأدوار المكلفة، لصالح الجهات الإقليمية والدولية نفسها، مجاناً. ولا تجد سبيلاً لتمويلها ودفع كلفتها سوى جيب المواطن، بالرغم من أنها خدمات وأدوار حساسة ولا غنى عنها لأصحاب الحاجة الإقليميين والدوليين..
طبعاً، هذه العبقرية في السياسة والاقتصاد، لا تنتجها إلا فكرة "القيادة الرشيدة"!
بالمناسبة؛ الأفكار العربية الرشيدة تقودنا اليوم، في نتيجة مباشرة لأدائها العبقري خلال ربع القرن الأخير، إلى تركيز كل مخاوفنا نحو إيران؛ ولكن هل يصدق عاقل أن طهران يمكن أن تتورط في حرب مع العالم العربي؟
لقد جربت الجمهورية الإسلامية وخاضت حرباً لمدة ثماني سنوات ضد عراق صدام حسين، ولم تحقق شيئاً على الإطلاق. واضطرت في النهاية، كما قال الخميني حينها، إلى تجرع السم والقبول بوقف الحرب دون أية مكاسب. لكن إيران بالمقابل، حينما تركت العراق لأشقائه العرب ولنعمة التضامن العربي حصلت على كل شيء تريده، بل وأكثر مما كانت تريده وتحلم به: إسقاط النظام العراقي، الانتقام الشخصي من صدام حسين، وحصلت على العراق نفسه كاملاً..
لم تحصل إيران على كل ذلك بالحرب، بل بالمال والقيادات العربية الرشيدة..!
ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.