القطار الروسي

القطار الروسي
الرابط المختصر

 

تعي بعض دول المنطقة بأن لا سبيل إلى الوقوف أمام القطار الروسي المنطلق بسرعته القصوى، في المنطقة والعالم. وتتشبث أخرى بأهداب ثقة عمياء بأوهام القدرة الكلية للقوة الأميركية. وبين هذا وذاك، يتحدث كثيرون عن «الغرق الروسي في المستنقع السوري»، ويكثرون من عقد المقاربات التي تستحضر التجربة الأفغانية، والمسألة الأوكرانية، والحالة البوسنية، للتأكيد أن موسكو ستجد نفسها في مأزق كبير.

 

وفي الواقع، ليس هنالك من أحد مسلح فاعل في سوريا، يمثل ما يسمى بقوى المعارضة، سوى القوى الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة أو المنبثقة عنه، أو الخلايا المرتبطة بأجهزة استخبارات عربية وغربية. وهو ما يلفت الانتباه إلى أن أصحاب المقاربات الكثيرة يلجؤون إلى استحضار كل تلك التجارب والحالات غير ذات الشأن والصلة بالواقع الحالي، وينسون ويتناسون تجربة هامة، يجدر استحضارها لدى الحديث عن «التدخل» الروسي في سوريا. وهذه هي بالذات الحالة الشيشانية، التي تلخص طريقة الإدارة الروسية الحالية، ورئيسها فلاديمير بوتين على وجه الخصوص، في إدارة الأزمات المسلحة، وهي طريقة أنقذت الشيشان وروسيا معاً، بسرعة وفعالية لم يستوعبهما العالم إلى اليوم.

 

تتقاطع الحالتان الشيشانية والسورية في نواح عدّة أساسية، وهي أن القوى والمجموعات وكثير من الأفراد والأفكار والأدوار التي كانت تتحرك في الميدان الشيشاني، هي نفسها من يتحرك في الميدان السوري اليوم. والقوى الدولية وشبكة المصالح التي تستخدم هذه المجموعات والأفكار الظلامية في سوريا اليوم، هي نفسها التي كانت تستخدمها في الشيشان.

 

وثمة تشابه آخر؛ ففي فترة حكم يلتسين كانت مراكز القوى في موسكو تستخدم بعض المجموعات الشيشانية في ألاعيب التوازنات الداخلية، فكان يتم إرسال الجيش الروسي إلى الشيشان، بينما في الوقت نفسه تموّن بعض مراكز القوى في موسكو المجموعات الإرهابية في الشيشان بالمال والسلاح وتسهل لها استقطاب المسلحين ومرورهم. وهذا يشبه ما يقوم به التحالف الدولي ضد داعش، الذي يضرب بعض أجزاء داعش غير المخترقة منه، بينما يلقى السلاح ومؤونات الغذاء والطبابة إلى أجزاء أخرى من التنظيم يعشعش فيها عملاء الاستخبارات، ويسهل مرور المقاتلين واستقطابهم، لتبقى ورقة الإرهاب مسلطة على رقبة الدولة السورية.

 

وهناك، كذلك، تقاطع مهم بين الحالتين الشيشانية والسورية؛ ففي الأولى بقيت الحرب مستعصية ومستحيلة إلى أن تسلم الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين رئاسة الوزراء في بلاده. ولما شن حربه الشهيرة على الإرهابيين الذين تجمعوا في الشيشان، بجدية جاءت نتائجها السريعة، لتجتث المجموعات الإرهابية من جذورها، في وقت قياسي، أصيبت أوساط مراكز القوى في موسكو بالفزع، فبدأت حربها الشعواء على بوتين، بكل الوسائل المتاحة، ومنها الإعلام.

 

واليوم في سوريا، مع وصول الأمور إلى ما هي عليه، محلياً ودولياً، وبعد استقرار الوضع السوري في النموذج الشيشاني، وتراجع أي ملمح مدني بعيد عن الإرهاب في المعارضة السورية، قررت روسيا التدخل، ومعالجة الأمور بخبرتها الشيشانية؛ وهذا بالذات، ما أثار فزع الغرب، صاحب الاستثمار الأبرز في الأزمة الدموية السورية، الذي يعرف أن نهاية التنظيم الإرهابي تعني خسارة ورقة ضغط سياسي. تماماً  كما أصاب الفزع أوساط مراكز القوى في موسكو حين تسوية المسألة الشيشانية.

 

وهنا، لا بأس من الحديث عن «الشرعية»، التي تقول أوساط سورية في «المعارضة» أنها غائبة عن التدخل الروسي، ما يجعل منه، بحسبها، «عدواناً روسياً على سوريا»، بتجاهل تام لحقيقة أن «التدخل الروسي جاء بناء على طلب سوري»، وأن الطائرات الروسية هي الوحيدة الحاصلة على إذن الدولة السورية للتحليق في أجوائها، بينما لم تبدر عنهم أية إشارة انزعاج حيال طائرات التحالف الدولي التي انتهكت سيادة بلادهم، واخترقت أجواءها، وقصفت داخل أراضي دولتهم، طوال عام كامل، من دون موافقة الدولة الشرعية وبلا تفويض دولي، ولم يدفع ذلك أحداً منهم إلى تسمية هذا السلوك عدواناً.

 

وهذا، يلفتني إلى القول إن التفويض السوري للطائرات الروسية، التي سيزداد حضورها وعددها، قد يقود في يوم مقبل إلى تحوّل الروس من طلب التنسيق مع الأميركيين في الأجواء إلى إعلان الأجواء السورية منطقة مغلقة في وجه طيران التحالف وغيره.

 

وفي الموقف، يبرز رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على القادة الغربيين الذين اندفعوا يطالبون روسيا الأسبوع الماضي بتجنب قصف المعارضة المعتدلة، قائلاً إنه يطرح عليهم منذ عام سؤالاً بسيطاً: «من هي المعارضة المعتدلة»، مشيراً إلى أن ليس هنالك في القانون الدولي «معتدل» و«غير معتدل»، بل شرعي وغير شرعي.

 

وفي واقع القانون الدولي، فإن العلم المرفوع أمام الأمم المتحدة باعتباره العلم السوري الشرعي هو العلم الذي تتمسك به الحكومة، وليس العلم الذي ترفعه القوى المناوئة لها. وممثل الدولة السورية في المنظمة الدولية هو مندوب الحكومة السورية، وليس خصومها. وحين تشير الأمم المتحدة وأمينها العام ومجلس الأمن إلى الرئيس السوري فإنهم يقصدون على وجه الحصر بشار الأسد، وليس أي أحد آخر.

 

وفي المحصلة، فإن الحكومة والنظام القائم، بالنسبة لرجل سياسة وقانون مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يزالان في الواقع القانوني الدولي، يمثلان الشرعية السورية؛ وبالتالي، فإن كل من يرفع السلاح بوجه الحكومة الشرعية، هو إرهابي لا أكثر ولا أقل!

 

لا علّة في التكييف القانوني للوضع الذي يقدمه بوتين؛ ولكن العلة في من يعتقد أنه من الممكن الوقوف بطريق القطار الروسي المندفع!

 

ياسر قبيلات: روائي وقاص وسيناريست. عمِل مديراً للنصوص وتطوير الأفكار في المركز العربي للخدمات السمعية والبصرية، ونال جائزة النص المتميز في المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون في تونس عام 2005.